رئيس التحرير
عصام كامل

لقيمات بطعم اللكمات


أخيرا تمكنت الأم المكلومة وابنتها الصبية البريئة من الذهاب لبيت الكاهن الذي يحتفظ بمفاتيح المقابر وكأنها من أملاكه الخاصة، كانت رحلة شاقة استمرت لساعات طويلة عصيبة على الأم الفقيرة وابنتها الصبية الجميلة، اللتين كانتا ترتديان ملابس رخيصة قديمة ولكنها محتشمة ويحملان في أيديهما كيسين، أحدهما به بقايا طعام بسيط رخيص تقومان صلبه في قلب قطار الفقراء والآخر باقة من الورود أوشكت على الذبول كأرواح بؤساء البلدة.


توجهت الأم لبيت الكاهن، الذي كان نائما كعادته في قيلولة الظهيرة المحببة له، لكن الأم أصرت على مقابلته لأن قطار العودة لبلدتها البعيدة يغادر بعد أقل من ساعة، إذن عليها أن تصارع الزمان الذي يصرعها دوما، حتى تتمكن من زيارة قبر ولدها فقيد الفقر والظلم والخوف!

تحكى الأم للكاهن في ثبات، رغم حزنها النبيل، عن ظروف مصرع وحيدها فتقول:
"بدأ الأمر يوم الإثنين من الأسبوع المنصرم، عند الثالثة فجرًا، على بعد مفارق قليلة من هنا. ربيكا، أرملة وحيدة كانت تعيش داخل بيت مليء بالقطع وبقاياها، تناهى إلى مسامعها رغم رذاذ المطر صوت محاولة أحدهم محاولة فتح الباب الأمامي من الخارج، نهضت، نقبت في خزانتها عن مسدس قديم لم يطلق منه أحد رصاصة منذ أيام الكولونيل أوريليانو بيانديا، وقصدت غرفة الجلوس من دون إضاءة النور.

استجمعت نفسها لا إراديًا ليس تمامًا بسبب الضجة المنبعثة من القفل، بل بدافع الفزع الذي تملكها بسبب ثماني وعشرين سنة من الوحدة، قبضت بإحكام على المسدس بكلتا يديها، أغلقت عينيها، وضغطت الزناد. كانت المرة الأولى في حياتها تطلق فيها النار من سلاح وبعدها تناهى إليها، صوت خفيض، محبب لكن متعب جدًا(آه، يا أمى).

الصبى الذي وجدوه ميتًا أمام المنزل صباحًا، وقد تمزق أنفه، كان يرتدي فانلة ممزقة ملونة، وسروالًا عاديًا مع حبل كحزام، وكان حافي القدمين لم يكن أحد في البلدة يعرفه.

- إذن، كان اسمه (كارلوس سنتينو) تختتم الكاهن بعد أن أنهى الكتابة.

سنتينو آيالا، قالت المرأة.. كان ولدى الوحيد.

عاد الكاهن إلى خزانته. كان ثمة مفتاحان كبيران صدآن معلقتان داخل الخزانة. تخيلت الفتاة، كما قد تكون أمها فعلت حين كانت فتاة مثلها، وكذلك كما قد يكون الكاهن نفسه تخيل ذات يوم، أنهما كانتا مفتاحي القديس بطرس، تناولهما، وضعهما فوق دفتر الملاحظات المفتوح فوق الدرابزين، وأشار بسبابته إلى موضع في الصفحة حيث كتب للتو، وهو ينظر إلى المرأة.

(وقعي هنا)

خربشت المرأة اسمها، معلقة حقيبة اليد بذراعها، التقطت الفتاة الأزهار، توجهت صوب الدرابزين، وراقبت ما ستفعله أمها بتمعن.

أطلق الكاهن تنهيدة قائلا:
- ألم تحاولي مرة جلبه إلى طريق الصواب؟

أجابت المرأة بعد الانتهاء من التوقيع.
- بل كان رجلًا صالحًا.

نظر الكاهن بداية في المرأة ومن ثم في الفتاة، وأدرك بنوع من الذهول التقني أنهما ليستا على وشك البكاء. تابعت المرأة بالنبرة نفسها:
"قلت له ألا يقدم على سرقة شيء يحتاج أحد ما إلا لسد جوعه فقط، وكان يطاوعني من جهة أخرى، حين كان يمارس الملاكمة، يضطره ذلك إلى ملازمة الفراش ثلاثة أيام، تعبًا من تلقى اللكمات مقابل أجر زهيد يطعمنا".

- كان يفترض اقتلاع كل أسنانه، أكملت الفتاة حديث أمها.

(حقا)، أكملت الأم قائلة. (كل لقمة تناولتها أنا في تلك الأيام كان لها طعم اللكمات التي كان يتلقاها ابني أمامي أيام السبت). لا رد لمشيئة الله، قالها «الأب» الكاهن، ثم انصرف ليكمل نومه، لكنه استدار في ذكاء شديد وإنسانية رائعة ليذكر المرأة بالتبرع لكنيسته قبل الذهاب للمقابر لزيارة فقدها الذي قتل جوعا ومهانة وظلما!

تنتهى قصة "قيلولة الثلاثاء" لجبرايل جارثا ماريكز بهذه اللقطة، ولكن مثيلاتها لا تنتهى أبدا ما دام هناك واعظ غافل ودين شكلى ودور عبادة دون تدين..

تم نشر القصة عام 1962 ولكن هناك قصصا أكثر منها لم تنشر بعد، وربما كان موت شحاذة بائسة من البرد في مدينة المحلة مثلها، وقبلها كانت طفلة أخرى تجمدت بردا وفقرا وماتت في المنصورة، ولكن الحمد لله هناك الكثير من دور العبادة الكبيرة جدا للصلاة على كل البؤساء والفقراء.. وليبقى الواعظ في صومعته وغفلته متنعما في فردوس الدنيا تاركا فردوس الآخرة للفقراء بعد موتهم كمدا في أفضل الأحوال.
fotuheng@gmail.com

الجريدة الرسمية