رئيس التحرير
عصام كامل

الكويت فقدت "ناصر" الإصلاح وفارسه

لم يحب شعب الكويت كبيرة وصغيرة، أحدا من أبناء أسرة الحكم آل الصباح، مثلما أحب وأحترم الشيخ ناصر صباح الأحمد، نجل أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد، ويشاء القدر أن يلحق الابن بوالده بعد أسابيع معدودة، لتصدم الكويت بمصاب جديد في أعز أبنائها وأخلصهم للبلد والشعب..


وكان الشيخ ناصر، رحمه الله، حديث "السوشيال ميديا" ونجم "الهاشتاغات" خلال السنوات القليلة الماضية، منذ أن أعلن عن رؤيته الطموحة لتطوير الكويت، وزاد ارتباط الشعب به ومحبته له بعدما تصدى منفردا للفساد، وواجه المفسدين معلنا أسماءهم في بلاغات باسمه للنائب العام.

وكان أن بدأ الشيخ ناصر مواجهته للفساد، بعدما تولى حقيبة وزارة الدفاع، بالإبلاغ عن فساد ورشاوى في صفقات تسليح وزارة الدفاع وسرقة "صندوق الجيش" وهي سرقات واختلاسات مليارية، واتهم فيها بالاسم أبناء عمومته وزير الدفاع السابق الشيخ خالد الجراح، وبالتبعية طال الاتهام رئيس الوزراء حينها الشيخ جابر المبارك، لأنه كان وزيرا للدفاع قبلها..

مأساة باريس تستحق التأمل

ولأن الشيخ ناصر أبلغه على مدى أشهر بسرقات "صندوق الجيش" وفساد صفقات التسليح، ولم يحرك ساكناً، فلم يجد أمامه سوى إبلاغ النائب العام باسمه الشخصي، ما أحدث ضجة انتهت بأن أعفى الأمير الراحل صباح الأحمد نجله الشيخ ناصر والشيخ خالد الجراح وزير الداخلية حينها من منصبيهما..

واضطر رئيس الوزراء جابر المبارك للاستقالة ومعه الحكومة، حتى يبدأ النائب العام التحقيق في بلاغ الشيخ ناصر، الذي ثبت صحته بعد فترة.

لم يتأثر الشيخ ناصر، بإعفائه من منصبه، لأنه لم يكن يوما من الساعين إلى المناصب، وكشف بعدها بأيام فضيحة الصندوق الماليزي أكبر عمليات غسيل أموال في العالم بمشاركة دول عدة، والمتهم الأول فيها الابن الأكبر لرئيس الوزراء السابق الشيخ جابر المبارك، وتوالت بعدها ملفات الفساد التي يكشفها الشيخ ناصر.

في تلك الفترة، سئل الشيخ ناصر، في أحد مجالسه الخاصة، عن أن والده يمهد له طريق الحكم، فرد ناصر صباح الأحمد "أنا ما أسعى للحكم وكل همي أن أطهّر فترة حكم والدي الشيخ صباح الأحمد من الفاسدين والمفسدين، الذين بسببهم ظن البعض أن والدي يرعى الفساد أو على علم به ويسكت عنه.. السعي إلى الحكم غير معيب لكنني أرغب في تطهير الكويت من الفاسدين ومحاسبتهم، بعد أن سيطروا على بعض المناصب المهمة وزادوا وتيرة الفساد، وسأسعى فيما تبقى من أيامي إلى تقديمهم للقضاء لمحاسبتهم ومعاقبتهم".

عودة مؤامرات ثنائي الخراب

عُرف عن الراحل ناصر صباح الأحمد، محاربته للفساد منذ بدايته، حيث كان مؤسساً وعضواً بجمعية حماية المال العام الكويتية، وأكد مراراً أن مكافحة الفساد تبدأ بتطهير مؤسسات الدولة من فاسديها، ومن ارتبطت أسماؤهم بالفساد دون تمييز، وأنه لا يمكن الحديث عن تنمية أو عدالة ما دام هناك فاسدون في مؤسسات البلد.

خلال اليومين الأخيرين من حياة الشيخ ناصر صباح الأحمد، وحين اشتدت عليه وطأة المرض في أمريكا، تذكر الجميع شجاعته وفروسيته، عندما انتصر للشعب والبرلمان، مناشدا عمه الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد في العام 1998، عبر مقال أن يتخلص من الحكومة مجتمعة بما فيها والده الشيخ صباح الأحمد، وكان حينها نائبا أول لرئيس الوزراء وزيرا للخارجية، وكان الشيخ سعد العبدالله وليا للعهد رئيسا للوزراء، لكن رغم ديمقراطية وحرية الكويت غير المسبوقة، رفضت الصحف اليومية نشر مقال الشيخ ناصر صباح الأحمد، فقام بتوزيعه على شكل منشور بعنوان "سيدي.. سرحّهم وتوكل" وجاء في المقال المهم:


(في مثل هذا الظرف الحرج، الذي تمر به البلاد والأمة لا بد من كلمة صريحة واضحة تقال، ولا بد من قرار سديد يُتخذ، فقد عانينا من افتعال الأزمات وغياب الرأي وتغليب النفاق واستهداف الثوابت وتجاهل مكامن العلة ومواطن الداء.

ولئن كانت هنالك حقائق نستذكرها، فأول ما نستذكر تلك الوقفة الموحدة الصادقة لشعب الكويت بكل فئاته دفاعاً عن سيادة بلاده وتمسكاً بشرعية نظامه فترة الاحتلال الغاشم، تلك الوقفة التي كانت مضرب الأمثال في الوفاء والولاء، وهي وقفة لا يجوز بحال من الأحوال أن تجحدها (…)، وخير تعبير عن ذلك هو التزامنا حقوق الأمة واحترامنا عهودها.

ومن هذا، فمن الواجب احترام خيارات الأمة وعدم التقليل من مكانة نوابها الممثلين لها والمعبرين عن إرادتها، مهما كان الرأي في ممارسة بعضهم وأياً كانت الملاحظة حول مستوى أداء البعض الآخر منهم، فهؤلاء النواب وغيرهم من النواب المنتخبين في أي مجلس أمة سابق وحالي أو من هم نتاج اختيار جماعي واسع، لا يجوز أن يوضع هذا الاختيار الجماعي في مرتبة أدنى عند المفاضلة بينه وبين تعيين من يتولون مسؤولياتهم التنفيذية بحكم مناصبهم.

قاطع التركي.. ادعم المصري

إن مصلحة الكويت تقتضي وقفة، ومصلحة النظام تقتضي قراراً، ومصلحة الأمة تقتضي موقفاً، فلتكن هذه الوقفة وهذا القرار والموقف تجاه من وعد وأخلف، ولتكن وقفة في وجه من أفسد و(…) وخرب القيم، ولتكن تجاه من لا يمتلك الرؤية ويعجز عن معالجة المشكلات وتقديم الحلول، وتجاه من يفتعل الأزمات ويسيء إلى حيادية الحكم، ويتجاوز القانون ويعجز عن حماية المال العام.

لتكن الوقفة والموقف تجاه من يتصور الكويت كياناً مؤقتاً زائلاً في بضع سنين، وهي بإذن الله دائمة خالدة أبد آبدين إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولتكن الوقفة في وجه من حاول العبث بالدستور والعبث في القضاء، كما عبث في الاقتصاد فدمره وعبث في المجتمع فقسمه، وعبث في الإدارة فأفسدها.

من بيده الأمر قادر على أن يضع حداً للمناورات السياسية المفتعلة ويؤكد أن الديمقراطية موقفنا المبدئي وخيارنا الاستراتيجي، فهذا كان مضمون نطق ولي العهد حفظه الله قبل أيام عندما أولم للأمة في لقاء كنا قد استبشرنا به خيراً.

من بيده الأمر قادر على أن يتسامى فوق الخلافات ويبصر الحقائق ويعالج الأمر بحكمة تستند إلى ما قاله سلفاه الطيبان المغفور له الأمير الشيخ عبدالله السالم الصباح عندما استشهد ببيت الشعر العربي الملخص للحكمة "تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت، فإن تولت فبالأشرار تنقاد"، وكذلك الكلمة الصادقة النابعة من القلب للمغفور له الأمير الشيخ صباح السالم الصباح، عندما أرتجل مقولته الشهيرة "أنا وشعبي كل أبونا جماعة". رحم الله الأميرين الراحلين ووفق الله خلفهما، الذي تتطلع إليه الكويت بأسرها أملاً وحكماً، ليختار ما ينشده الكويتيون من إصلاح ونهضة.

ختاماً، نقولها واضحة صريحة: سرحهم وتوكل على الله واعتمد على شعبك، الذي اختار ممثليه ونوابه، وينتظر اليوم حكومة قادرة على تلبية طموحه وتحقيق تطلعاته).

هذه بعض قيم ومواقف ناصر صباح الأحمد، فمنذ البداية لم يكن تقليدياً كغيره، حتى عندما وضع رؤية الكويت 2035، حرص على تنويع مصادر الدخل بدلاً من الاعتماد كليا على النفط، بتحويل إقليم الشمال الاقتصادي مركزا ماليا، وتأهيل الجزر والموانئ لتصبح مراكز دولية للتصنيع وإعادة التصدير، الاتفاق مع الصين لفتح طريق الحرير الإقليمية الدولية، على أن تكون بداية الإصلاح محاربة الفساد وإحالة جميع المفسدين إلى القضاء.

اهتم الشيخ ناصر، أيضا بالثقافة وأسس أهم وأكبر مؤسسة تراثية "دار الآثار الإسلامية"، وهي المؤسسة الثقافية الكويتية القائمة على "مجموعة الصباح الأثرية"، وتتولى إدارتها زوجته الشيخة حصة صباح السالم، ابنة أمير الكويت الأسبق الشيخ صباح السالم الصباح، كما وقف وراء إنشاء دار الأوبرا في السنوات الأخيرة.

تلقى الشيخ ناصر تعليمه بين الكويت وأوروبا، وبدأ حياته المهنية في شركات كويتية وعالمية في مجال الصناعة والاستثمار، وأسس بعدها شركة "الفتوح القابضة" وشركة "مشاريع الكويت القابضة" وعندما أصبح أولاده لديهم القدرة على إدارة الشركات تركها لهم وتفرغ لمواجهة الفساد.

خلال حياته اختير الشيخ ناصر صباح الأحمد، في العام 1999 مستشاراً خاصاً لولي العهد آنذاك الراحل الشيخ سعد العبدالله، ثم وزيراً لشؤون الديوان الأميري في فبراير 2006، كما عُين نائباً لرئيس مجلس الوزراء وزيراً للدفاع في العام 2017.

الجريدة الرسمية