المجددون.. مصطفى عبد الرازق، شيخ الأزهر ورائد الفلسفة الإسلامية الحديثة
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّدُ لها دينها".
ولم يشترط السيوطي أن يكون "المجدِّدُ" فردًا، بل يشمل كل من نفع الأمة وجدد لها شيئًا من أمور دينها ودنياها في أي مجال من المجالات، وأيده في ذلك ابن الأثير الجزري وشمس الدين الذهبي، وابن كثير الدمشقي، وابن حجر العسقلاني.
ولا يلزم أن تجتمع خصال الخير كلها في شخص واحد، بل قد يكون هناك أكثر من عالِمٍ في أكثر من مكان، في وقتٍ واحدٍ، أو أزمانٍ متفرقة، يتميز كل منهم بمزية في علم من العلوم الدينية والدنيوية، شريطة أن يكونوا جميعا مسلمين، مؤمنين، ملتزمين بهدي الدين الحنيف.
وهذا موجود، ولله الحمد، حتى قيام الساعة، فهناك من يتفوق في اللغة، والفقه، والتفسير، وهناك من يمتاز في العلوم الحديثة، كالطب والهندسة والتكنولوجيا، وغيرها.. وهناك من يدفع عن الإسلام شبهات الملحدين، والمتطرفين والمفرطين، ويصد هجمات المبطلين، والمنحرفين، وأعداء الدين.
مصطفى عبد الرازق (1304هـ - 1366هـ)
سبق فكره عصره، فكان يحرص على زيارة المعارض التشكيلية وصديقا لرائد النحت محمود مختار، وشارك في حملة الاكتتاب لإقامة تمثال "نهضة مصر"، ولم يخرج بفتوى تقول بحرمة التماثيل.. ودعم "أم كلثوم" عندما جاءت إلى القاهرة، ومع ذلك فلم يخلع عمامته طوال حياته.
اعتبره الكاتب والمفكر محمد السني في كتابه "الثورة وبريق الحرية" مجددا للفلسفة الإسلامية في العصر الحديث.
مولده ونشأته
هو سليل أسرة عريقة، اشتهر كثيرٌ من أبنائها بخدمة القضية الوطنية المصرية، ولد سنة (1305هـ=1888م) في قرية "أبو جرج" التابعة لمركز بني مزار بمحافظة المنيا بصعيد مصر.
ونشأ في كنف أبيه حسن عبد الرازق الذي كان عضوا بالمجالس شبه النيابية التي عرفتها مصر منذ عصر الخديوي إسماعيل.
عاش طفولته في قريته، حيث تعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ثم انتقل وهو في العاشرة إلى القاهرة، والتحق بالأزهر ليدرس العلوم الشرعية واللغوية، حيث درس الفقه الشافعي، وعلوم البلاغة والمنطق والأدب والعروض والنحو وغيرها.
تلميذ محمد عبده
أخذ يتردد منذ سنة (1321هـ=1903م) على دروس الإمام محمد عبده في الرواق العباسي، حيث كان يفسر القرآن الكريم، ويشرح كتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني.
اقتنع التلميذ بشيخه وبأفكاره الإصلاحية، وتوثقت الصلة بينهما، وصار من خاصة تلاميذه وأقربهم إليه، على الرغم من قصر المدة الذي اتصل فيها بالإمام.

استمر عبد الرازق وفيا لأستاذه محمد عبده، ولم يتجاهل الحديث عن جهاده تأليفا ومحاضرة وتدريسا وكتابة في الصحف عن سيرة الإمام وآثاره، وأفكاره في الإصلاح حين دعا إلى التوفيق بين العقل والنقل، وإلى تحرير العقل من التقليد؛ لأن النظر العقلي هو أساس الإيمان الصحيح.
واتصل بعدد من كبار علماء الأزهر، فدرس أصول الفقه على الشيخ أبي الفضل الجيزاوي، والمنطق على الشيخين حسنين مخلوف وأحمد أبو خطوة، ومن شيوخه أيضا: بسيوني عسل، ومحمد حسنين البولاقي، ومحمد الحلبي، وغيرهم.
في فرنسا
نال العالمية سنة (1326هـ=1908م) ثم بدأ حياته العامة، واهتم بالمشاركة في الجمعيات العلمية والأدبية، كالجمعية الأزهرية التي أنشأها محمد عبده، واختير مصطفى عبد الرازق رئيسا لها.
وكانت هذه الجمعية تجتمع لدراسة إصلاح التعليم بالأزهر.

سافر عام (1329هـ=1911م) إلى فرنسا، لاستكمال دراسته العليا، والوقوف على الثقافة الغربية ومعرفة ينابيعها، فالتحق بجامعة السربون لدراسة اللغة الفرنسية، وحضر دروس الفلسفة، ودرس الاجتماع على يد دوركايم، وتلقى دروسا في الأدب وتاريخه، ثم تحول إلى جامعة ليون ليدرس أصول الشريعة الإسلامية على أستاذه إدوارد لامبير.
وخلال إقامته هناك أعد بحثا لنيل درجة الدكتوراه، وكان بعنوان "الإمام الشافعي أكبر مشرعي الإسلام".
اضطر للعودة إلى مصر إثر نشوب الحرب العالمية الأولى، مع زملائه المصريين الذين كانوا يدرسون في أوربا سنة (1322هـ=1914م).
حزب الأحرار الدستوريين
بعد عودته إلى مصر عُيِّن في سنة (1332هـ=1915م) موظفا في المجلس الأعلى للأزهر، ثم ترقى إلى وظيفة سكرتير المجلس، ثم انتقل إلى القضاء الشرعي سنة (1338هـ=1920م)؛ حيث عمل مفتشا بالمحاكم الشرعية، ثم اشترك مع أسرته في تأسيس حزب الأحرار الدستوريين (1341هـ=1922م)، ولكنه لم يندمج في أنشطة الحزب السياسية بشكل كبير؛ بسبب طبيعته الهادئة وميله إلى الفكر والأدب، واكتفى بنشر مقالاته الأدبية والاجتماعية والدينية في صحيفة الحزب المعروفة باسم “السياسة”.
وبعد أن أصبحت الجامعة الأهلية في مصر حكومية انتقل إليها في سنة (1346هـ=1927م) أستاذا مساعدا للفلسفة بكلية الآداب، وكان أول أستاذ مصري يلقي محاضرات في الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية.
وزيرا للأوقاف
وقع عليه الاختيار وزيرا للأوقاف عدة مرات (1356-1363هـ=1937-1944م)، فكان أول شيخ أزهري يتولى الوزارة في مصر، ومُنح لقب الباشاوية، ولكنه آثر عليه لقب شيخ.
شيخا للأزهر
وفي 22 من المحرم سنة 1365هـ= 27 من ديسمبر 1945م، عُيِّن شيخا للأزهر خلفا للشيخ المراغي، لكن مشيخته لم تطل؛ فقد لقي ربه بعد فترة وجيزة.
رائد الفكر الفلسفي
الشيخ مصطفى عبد الرازق هو رائد الفكر الفلسفي في مصر المعاصرة، وأول أستاذ جامعي يقوم بتدريس الفلسفة الإسلامية من وجهة نظر إسلامية خالصة، فقد كانت تدرس من قبل في الجامعة المصرية من خلال الدرس الاستشراقي الذي يربط الفلسفة الإسلامية بالتراث اليوناني، وينكر أي دور للعقل المسلم في تطوير الفكر الفلسفي بشكل عام.
قامت رؤية الشيخ مصطفى عبد الرازق على تتبع نشأة التفكير الإسلامي الفلسفي في كتابات المسلمين أنفسهم قبل أن يتصلوا بالفلسفة اليونانية ويدرسوها دراسة وافية، ودعا إلى تدريس علم الكلام والتصوف في أقسام الفلسفة، وإلى البحث عن أوجه الأصالة والابتكار في الفلسفة الإسلامية.
وأكد أن الاجتهاد بالرأي هو بداية النظر العقلي؛ وبالتالي فإن علم أصول الفقه ليس ضعيف الصلة بالفلسفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في مجملها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو علم الكلام.

وكان قيام الشيخ مصطفى عبد الرازق بتدريس الفلسفة الإسلامية نقطة تحول في تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي في مصر؛ حيث قدم تصورا خاصا في نشأة الفكر الفلسفي الإسلامي لم يُسبق إليه، وكانت الفلسفة الإسلامية تدرس على نحو يميل إلى النظر الغربي، حيث اتُّهمت بعدم الدقة والأصالة، والعجز عن الابتكار، وبأنها ليست إلا محاكاة للفلسفة اليونانية، وأنها اختصار سيئ قام به مترجمون غير جيدين للفكر اليوناني القديم.
أنكر غالبية الباحثين الأوربيين وبعض الكتاب المحدثين من المسلمين، الفكر الإسلامي كل جديد وإبداع، وأعلنوا أن الفلسفة الإسلامية هي فلسفة الكندي والفارابي وابن طفيل وابن باجة وابن رشد، وهي الفئة التي عرفت باسم فلاسفة الإسلام.
وحاول هؤلاء أن يبينوا التطابق التام بين ما يسمى لديهم فلسفة إسلامية والفلسفة اليونانية، وأن يردوا الأولى إلى الثانية، مع تفصيلات جزئية.
كما حصروا الفكر الإسلامي في دائرة واحدة لم يتخطوها وهي الفلسفة الإسلامية على طريقة اليونان، وأغفلوا جوانب أخرى أصيلة لم يلتفتوا إليها سواء عن عمد أو غير عمد، وهذه الجوانب هي ما حاول الشيخ مصطفى عبد الرازق أن يكشف عنها، ويبرز ما فيها من جدة وابتكار وأصالة وإبداع، من خلال دراسة الفلسفة الإسلامية في مظانها الحقيقية، وفي كتابات المسلمين الأصيلة، ودحضه لمزاعم المستشرقين، وعلى رأسهم رينان، من أن العقل الإسلامي من الناحية البيولوجية غير قادر على إنتاج فلسفة يعتد بها؛ لأنه يميل إلى البساطة والوحدة ويرفض التعدد والتركيب، ودحض الشيخ عبد الرازق هذا، مؤكدا على المكانة الرفيعة التي يتبوأها العقل في الإسلام، من خلال دراسته للنظر العقلي في الفكر الإسلامي، مدعوما بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وتحليله لمكانة الرأي في الفكر الإسلامي.
تلاميذه
وبعد أن أعلن عبد الرازق عن دعوته التجديدية، وإلى دراسة الفلسفة الإسلامية في مواطنها الحقيقية، سارع تلاميذه إلى إحياء الفكر الفلسفي الإسلامي، فقد تأثر بأفكار الشيخ مصطفى عبد الرازق عدد كبير من تلاميذه، فاستكملوا ما بدأه، وقدموا دراسات جديدة تكشف عن جوانب أصيلة في الفكر الفلسفي، ومنهم محمود الخضيري، ومحمد مصطفى حلمي الذي وضع دراسة ضافية عن فلسفة الحب الإلهي لدى عمر بن الفارض المعروف بسلطان العاشقين، وقد ملأت كتاباته في التصوف فجوة كبيرة في تاريخ الفلسفة الإسلامية.
ومنهم محمد عبد الهادي أبو ريدة الذي قدم دراسة عن المعتزلة، وقدم علي سامي النشار كتابا حافلا بعنوان "مناهج البحث عند مفكري الإسلام ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسي"، رد فيه على مؤرخي المنطق وعلم مناهج البحث الذين ينكرون أن يكون للمسلمين مكانة مبدعة في نطاق علم مناهج البحث، وأنهم أخذوا بالمنطق اليوناني.
وكذلك عثمان أمين، وتوفيق الطويل، وأحمد فؤاد الأهواني.
فضلا عن مدرسة أخرى في دار العلوم اهتمت بالمدرسة العقلية الإسلامية، بدأت على يد العالم الكبير محمود قاسم الذي نشر أبحاثا مهمة عن ابن رشد بالعربية والفرنسية، وكذلك قامت في الأزهر مدرسة حمل لواءها الدكتور عبد الحليم محمود، ومحمد عبد الرحمن بيصار.
مؤلفاته
كان للشيخ عدد من المؤلفات، منها دراسة صغيرة أدبية عن البهاء زهير الشاعر المعروف.. وأشهر كتبه "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية".
وله أيضا: "فيلسوف العرب والمعلم الثاني"، تناول فيه فلسفة الكندي والفارابي.. و“الإمام الشافعي".. وكتاب "الشيخ محمد عبده"، وهو يجمع مقالاته ودراساته عن أستاذه، وركز فيه على الجانب الإصلاحي والفلسفي من حياة الإمام، كما قام بترجمة "رسالة التوحيد" لمحمد عبده إلى الفرنسية بالاشتراك مع برنارد ميشيل.
وجمع شقيقه الشيخ علي عبد الرازق مجموعة من مقالاته التي نشرها في الجرائد والمجلات في كتاب "من آثار مصطفى عبد الرازق" بمقدمة لطه حسين.
تكريمات
استحق الشيخ مصطفى عبد الرازق تقدير الهيئات والمجامع العلمية، فاختير عضوا بمجمع اللغة العربية، كما شرح فكره عددٌ من الدراسات والأطروحات العلمية.
وفاته
توفى، رحمه الله، في ٢٣ ربيع الأول ١٣٦٦هـ= 15 فبراير 1947.
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا
