رئيس التحرير
عصام كامل

مجتمع غابت عنه مكارم الأخلاق كيف يعيش أبناؤه؟!

وبات السؤال: أين ضمائر القوى الحية في المجتمع.. كيف لا تتنادى لتشخيص أخطر أمراضنا الاجتماعية وأشدها فتكًا وتدميرًا حتى تصف الدواء والعلاج الناجع لإشكالية أخلاقية عويصة أراها بلا مبالغة سببًا رئيسيًا لما نحن فيه من تراجع وتكاد لفرط سوئها أن تعصف بكل جهد تنموي في أي مجال من المجالات؟! وإذا أردنا حلًا حاسمًا لقضية محورية كهذه فلا مناص من الإجابة عن سؤال مهم: كيف اضطربت وتلوثت أخلاقنا.. وكيف يمكن وقف هذا الاضطراب وذلك التلوث حتى نستعيد بنيتنا الأخلاقية السليمة؟!


رأيي أن بداية الإصلاح من إعادة تنوير العقل، وشحذه بالأفكار السليمة وإطلاقه على طريق التفكير السليم للحكم على الأمور بصورة موضوعية متوازنة وهو- أي العقل- إذا استعاد حيويته وقدرته على الفرز والاختيار والحكم على الأشياء بمنطق سليم فلسوف يكون اختياره رشيدًا ينحاز للفطرة ويرفض كل عوج وفساد وهو ما يعني إصلاح الأخلاق بطريقة عقلانية ترفض التضليل ولا تستسلم لغواية التشويش والخداع ولا الإغراء الفاسد وهنا تسترد الأخلاق عافيتها وتوازنها لتصبح إيجابية متصالحة مع الآخر ومع الحياة من حولها.


فإذا صلح العقل تهيأ لاستقبال العلم الذي تربطه بالأخلاق علاقة إيجابية قوية؛ فكلما تلقى الشخص علمًا حقيقيًا نافعًا ارتقت أخلاقه وتهذبت مشاعره والعكس صحيح، ذلك أن كلما تفشى الجهل ساءت الأخلاق وتدنى الإنسان لمراتب غاية في الانحطاط.. ثم يأتي الدين الصحيح الأصيل وهو مصدر للأخلاق المطلقة التي لا ترتبط بمنافع أو مكاسب ولا تتغير بتغير الزمان والمكان أو الأشخاص؛ لأن للأخلاق في الدين قيمة في ذاتها ترتبط بالحقيقة الإيمانية التي تجعل الإنسان محبًا لله وللرسل والمخلوقات والكون كله ومنسجمًا مع ما حوله. ومن هذه الحالة المحبة تنطلق منظومة من الأخلاق العالية وممارسة هذه المنظومة الخلقية في الدين تعد نوعًا من التعبد في حد ذاتها.

أهمية مكارم الأخلاق


وتتعدد النصوص الدينية الداعية للتحلي بمكارم الأخلاق.. يقول ربنا عز وجل: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”، وهذا -كما قال ابن عباس- عام في حق من آمن ومن لم يؤمن.. ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني رحمة مهداة، بعثت برفع قوم وخفض آخرين".. ويقول الله تعالى: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ  وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ  فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ  فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ  إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران:159).


المجتمعات السوية تعلى من قيم الصدق والأمانة والحفاظ على المواعيد والوفاء بالوعد وإتقان العمل لقول النبي الكريم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" واحترام النظام، كما تعلى قيمة النظافة والجمال.. بينما المجتمعات المضطربة المتخلفة ستضطرب لديها مسألة التقدير؛ فترى الكذب ذكاءً اجتماعيًا وتنظر للصدق على أنه سذاجة، وتنظر للفهلوة على أنها شطارة ومهارة، وترى النظام والجمال مسائل رفاهية وكمالية لا تستحق الاهتمام.


وبناءً على تقدير المجتمع للمعايير والقيم الأخلاقية يجري تعزيز وتدعيم بعض هذه القيم وإضعاف وتنحية البعض الآخر حتى تتشكل الصورة النهائية للأخلاق طبقًا لذلك؛ وهو صورة لو تعلمون عظيمة؛ ذلك أنها تحدث تأثيرها الهائل في سلوك الفرد والمجتمع بما تغرسه في نفس صاحبها من رحمة وصدق وعدل وأمانة وحكمة وتكافل وتواضع وإخلاص؛ وتلك مكونات أساسية لا يستغني عنها أي مجتمع إذا أراد البقاء والنجاح والازدهار.. يقول الله تعالى: “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” (الشمس:9 و10). وتلك أيضًا إلهام وتوفيق من الله تعالى يقول عز وجل في السورة نفسها: "فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا".

 


فإذا توفرت للمجتمع -أي مجتمع- قاعدة أخلاقية صالحة ومتينة انطلق بقوة نحو غاياته يبني ويعمر ويسعد أفراده؛ فلا سعادة من دون انسجام وتفاهم وحوار وروابط متينة من مكارم الأخلاق التي تضمن التسامح والتراحم والتعايش على أرضية مشتركة، تحمي الضعيف وتدعم ذوي الحاجة الذين تحيطهم الأخلاق الحسنة وروح القانون بسياج من الحماية الطبيعية التي يصعب وجودها في مجتمع لا تتوفر أخلاق حسنة رفيعة، بحسبانها الضمانة الأساسية لانسجام الإنسان مع أخيه الإنسان وصون المجتمع ذاته من التحلل والتفكك وزوال أسباب القوة وربما الحياة ذاتها.
ولك أن تتخيل مجتمعًا غابت عنه مكارم الأخلاق كيف يعيش أبناؤه.. وكيف تتصارعهم المصالح وتتناهبهم النوازع والأهواء وكيف تكون الثقة في العلوم والمعارف والأخبار.. وما مصير الحقوق؟!

الجريدة الرسمية