رئيس التحرير
عصام كامل

مراقد آل البيت ومشاهد الصحابة في حضن الإهمال (12)

نادينا كثيرا وزارة الأوقاف بحماية الأضرحة والمقامات، إلا أنني اكتشفت أن وزارة الآثار تختص بالمقامات والمشاهد المسجلة في ملفاتها، فقط. الكارثة هنا؛ أنه ليست كل المشاهد، والأضرحة، مسجلة في كشوف الآثار، بل إن هناك الكثير والكثير من هذه المواقع لم يتم تسجيله.. ولا أدري السبب!!

 

من بين ضحايا عدم الانضواء تحت مظلة وزارة الآثار؛ ضريح سلطان العلماء، العز بن عبد السلام.. أشهر من تولى القضاء في مصر، والزعيم الروحي لانتصار مصر على رعب المغول، وإليه يرجع الفضل الأكبر في استئصال شأفتهم، والقضاء عليهم قضاء مبرمًأ، بعد أن عاثوا في بلاد الدنيا فسادًأ، ولم يقوَ على التصدي لهم أعتى الجيوش، أيامها، فكان الانتصار العظيم للجيش المصري في موقعة "عين جالوت"، وأنقذ العالم بأسره من الهلاك.

قبر العز بن عبد السلام، راح ضحية الإهمال، ويمكن القول إنه بات عبارة عن مجرد أنقاض، وبقايا بناء بديع، ونقوش إسلامية شديدة الروعة.

 

ضريح عز بن عبدالسلام

 

الضريح تهدم، ولكن هذا لا يحول دون إمكان إخضاعه للترميم، وإعادته إلى أقرب الصور لما كان عليه.. ومصر تتمتع بوجود العديد من المتخصصين والخبراء في الترميم.

الغريب أنه لا أحد من أهالي المنطقة المحيطة بضريح الإمام العظيم، القريب من ميدان السيدة عائشة، والمدفون في قرافة المقطم، يعرف عنه شيئًا، حتى أنهم لو سئلوا عن ضريح العز بن عبد السلام، لن يجيبوا، فهم يعرفونه بإسم عز الرجال، تصوروا؟!

 

ولمن لا يعرف، فالعز هو أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن السُّلَمي الشافعي، مغربي الأصل، ولد في حوران في سوريا سنة 577 هجرية، شيخ الإسلام والمسلمين، لقب بسلطان العلماء وشيخ الإسلام، المتبحر في مختلف علوم الشريعة، إمام عصره، والقائم في وجه الظلم والطغيان، وهو المحبوب لدى كل الناس، وأبرز الشخصيات التي عرفها القرن السابع الهجري، (الثالث عشر الميلادي).

 

سلطان العلماء

 

سافر مع عائلته إلى دمشق ليستقر هناك وقصد فطاحل العلماء في عصره، وجلس في حلقاتهم، ونهل من علومهم، وتأثر بأخلاقهم، واستوعب العلوم في مدة وجيزة، حتى صار من أعلم أهل زمانه، وقد لقبه تلميذه الكبير ابن دقيق العيد بـ"سلطان العلماء"، وتصدر للإفتاء والقضاء، كما تولى التدريس والخطابة بالجامع الأموي الكبير، وهو المسجد الذي كان ينام في زاويته ويعمل به حارسًا لنعال المصلين.

 

ثار على الملك الصالح إسماعيل الأيوبي في الشام؛ لبيعه السلاح للفرنجة، وانتقل إلى مصر، فجهر بالحق في وجه السلطان نجم الدين أيوب، وأصبح هناك على رأس حركة إسلامية واسعة، ولما علم بهجوم لويس التاسع ملك فرنسا على دمياط، انضم إلى الجيش الذاهب إلى المنصورة لرد المغيرين، خطيبًا ومجاهدًا حتى هُزم الأعداء، وأسر الملك.

 

موقفه من بيع الخمور

 

وحين قدم الإمام العز بن عبدالسلام إلى مصر سنة 639هـ، رحب به الملك الصالح نجم الدين أيوب، ووَلاه الخطابة والقضاء، ولم يقعده هذا الترحيب عن مواجهة الباطل حين بلغه أن حانة تبيع الخمور في القاهرة، وبعد أن تأكد من ذلك خرج إلى نجم الدين، وقال له: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم، الحانة «الفلانية» تباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، فقال الوالي: يا سيدي لم أفعل هذا إنه من زمن أبي، فقال الإمام: أنت من الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ فأمر السلطان بإزالة تلك الحانة.

 

ومن مواقفه الشهيرة أيضًا التي اصطدم فيها مع الملك الصالح نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك؛ ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا تجوز لهم الولاية على الأحرار؛ فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد، واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاؤوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، لكنه رفض كل هذا.

 

ولما رُفع الأمر إلى الصالح أيوب، استغرب من كلام الشيخ وأعلن رفضه لهذا الكلام، فخلع العز بن عبد السلام نفسه من منصب القضاء، وركب حماره يريد الرحيل من مصر، وخرج خلف الشيخ العالم الآلاف من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، ونسائها وصبيانها تأييدًا له، ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح، فأسرع بنفسه خلف الشيخ واسترضاه، فقال له العز: إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلا بد أن يباعوا أولًا، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين، فلا بد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين، ووافق الملك الصالح أيوب.

حين وافته المنية أمر السلطان الظاهر بيبرس الأمراء بأن يحملوا نعش الإمام، واشترك معهم في حمله، وحين استقر جثمان الشيخ تحت سفح المقطم، تنفس السلطان الظاهر بيبرس الصعداء، وقال: "الآن استقر أمري في الملك لأن هذا الشيخ لو قال للناس: اخرجوا عليه لانتزعوا الملك مني"، وأقيمت للشيخ في دمشق جنازة ضخمة وصلوا عليه صلاة الغائب.

الجريدة الرسمية