رئيس التحرير
عصام كامل

الاصطفاءات الإلهية


يقول الله تعالى: "يهدي الله لنوره من يشاء".. عندما يستقيم المؤمن على منهج الله تعالى وشريعته الغراء ويلتزم بهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويجتهد في أعمال العبادات والطاعات والذكر والبر والمعروف والإحسان، وفي كل ما يقرب إلى الله تعالى ويرضيه سبحانه، يصطفيه الله عز وجل ويقبل عليه بأنوار معرفته ويمحنه سبحانه ما شاء من العلوم والمعارف والأنوار والأسرار..


ويرتقي من إيمان الإعتقاد الذي أشار إليه عز وجل بقوله تعالى: "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأؤلئك هم المفلحون"..

يرتقي من إيمان الغيب إلى إيمان الشهود وهو مشاهدة ما آمن به غيبا ومن ذلك مشاهدة الملائكة الكرام التي آمن بها من قبل غيبا، ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة"..

هنا تأتيهم الملائكة لتزف له البشرى والبشارة من الله تعالى بالحفظ والأمن والأمان والسلامة ورعاية الله تعالى لهم في الدنيا والآخرة، وفي ذلك إشارة إلى ولاية الله عز وجل لهم، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. يقول سبحانه: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم"...

وهنا يدخل العبد في دائرة أهل العناية الإلهية وتصبح له خصوصيات من الله عز وجل منها، أن يرى بنور الله تعالى، يقول سبحانه: "أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس".. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله: "اتقى فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله.. وأن يسمع بسمعه عز وجل ويصير عبدا ربنا له حظ ومنزلة في حضرة القرب من ربه ومولاه جل في علاه"..

يقول سبحانه في الحديث القدسي: "ولا يزال يتقرب عبدي إلى بالنوافل حتى أحبه فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه".. ويقام في مقام يسمى بمقام المعرفة بالله ويدخل في دائرة الخاصة أي من الذين خصهم الله بالنظر إليه وشملهم بعنايته وقربهم منه سبحانه.. ثم هناك اصطفاء من الله تعالى من هؤلاء الخاصة العارفون بالله يزيدهم الله منه وصلا وقربا ويقيمهم فيما يسمى بالوقفة وتلقي الخطاب من مناط التكليم..

وهذا المقام أشار إليه عز وجل بقوله: "وكلم الله موسى تكليما".. والتكليم غير الكلام فالكلام له أدوات والتكليم بلا أدوات وهو خطاب الله عز وجل للروح والقلب.. وهو ما يسمى بالمخاطبات. ومن هؤلاء الصفوة أهل المواقف والمخاطبات العارف بالله إبن عبد الجبار النفري، وله كتاب معروف يسمى بالمواقف والمخاطبات.. ومما ذكره فيه: "عبدي.. لا تقف مع علمك فعلمك لا يعلم علمي وعلمي لا يعلمني.. ولا تقف مع معرفتك فمعرفتك لا تعرف معرفتي ومعرفتي لا تعرفني.. ومنها.. كنت لك من قبل أن تكن فكن لي بي بعد أن كنت. أكن لك على الدوام.. ومنها.. إن لم تعرف أين أنا منك وأين أنت مني فلا أنا منك ولا أنت مني"..

هذا وهناك اصطفاء آخر لخلاصة الاصطفاء، وهو مقام يسمى بفناء الفناء له بداية ونهاية.. بدايته يفنى عن حظوظه الدنيوية والأخروية ونهايته يصل إلى فناء الفناء، بمعنى أن يفني العبد عن نفسه بالكلية في الله بعدما يسقط اختياره لاختيار ربه ومولاه وكذلك يسقط تدبيره لتدبير مولاه جل علاه، ويسقط الأنا العالقة بنفسه ويغيب عن نفسه بشهود تجليات الله في الخلق وفي الأفعال والأحوال..

ولقد أشار الإمام على كرم الله وجهه إلى هذا المقام بقوله: "رأيت ربي بعين قلبي فقلت لا شك أنت أنت.. أنت الذي حزت كل أين بحيث لا أين ثمى أنت وليس للوهم فيك وهم فيعلم الوهم، كيف أنت وفي فنائي فنى فنائي وفي فنائي رأيت أنت"..

هذا ولقد أشار أحد العارفين بالله تعالى إلى هذا المقام أيضا بقوله: "إن غبت عني بدى وإن بدى غيبني".. عزيزي القارئ لا حرج على فضل الله تعالى فهو العاطي والمعطي والوهاب وهو القائل: "يختص برحمته من يشاء.. ويدخل في رحمته من يشاء.. وكلا لنمد هؤلاء وهؤلاء".. أي أهل الدنيا وأهل الآخرة.. "من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محذورا".. وأبواب عطائه وكرمه واصطفائه مفتوحة وما عليك إلا إخلاص النية والصدق في الإقبال على الله تعالى بدفع المحبة الخالصة له..
الجريدة الرسمية