رئيس التحرير
عصام كامل

فقدت أمها يوم ولادتها فرزقها الله بـ«ماما نونة».. أسماء ترد الجميل لخالتها بعد «30 سنة شقا»

فيتو

داخل أروقة مستشفى منشية البكري، في نهار أحد أيام شهر رمضان عام 1988، يتحرك الأستاذ حسنين الرجل الثلاثيني، ذهابا وإيابا في انتظار خروج مولودته الأولى إلى الحياة، يمسك مسبحته، ويتمتم بذكر الله، يحاول الحضور التخفيف عنه، يرفع يديه إلى السماء، مناجيا ربه: "بحق شهرك الكريم.. قومها بالسلامة يا رب".


يُفتح الباب يخرج الطبيب حاملا الطفلة، ويهمس في أذن الوالد: "مبروك جالك عروسة"، تتفتح أساريره ويمسك بطفلته وترتسم ضحكة على شفاه، تخالجه مشاعر مختلفة، يعود إلى الواقع مرة أخرى ويسأل: ما حالة زوجتي؟ ليلقي الطبيب مفاجأة: "حالتها ما زالت في مرحلة الخطر، تحتاج إلى دعائكم"، تتحول بهجة الأب إلى صدمة وترقب وخوف من مستقبل.
 

10 أيام قضتها الأم بين إفاقة وغيبوبة، كان الأب حينذاك يقضي نهاره في عمله ويذهب في المساء إلى زوجته حتى سطوع شمس نهار اليوم الثاني، يحدوه الأمل في أن تستيقظ زوجته من سباتها العميق.. أفاقت الأم من الغيبوبة طلبت رؤية ابنتها التي لم ترها منذ ولادتها.. ضمتها إلى صدرها.. حاولت أن ترضعها لكن بلا جدوى، بكت وصرخت، وقف الأب بين فرحة عودة الأم إلى الحياة مرة أخرى وبين خوفه على ابنته، أراد أن يخفف عنها.. احتضنها مع مولودته وبكى، وأخبرها أن تلك دموع الفرح، غابت الأم بعدها في غيبوبة أخرى، وبعد ثلاثة أيام في إحدى زياراته اقترب منه الطبيب، وأخبره بهدوء: "البقاء لله".


فجأة وجد الأب نفسه وحيدا مع صغيرته يحملها بيديه، ينظر إليها.. تباغته بابتسامة تدخل الفرح إلى قلبه، يغيب عنها في حزنه على زوجته، ويتساءل في سره عن مصير مولودته الأولى، من سيعتني بها؟ من سيعمل على تربيتها؟ من يغير حفاضاتها ويطعمها؟!
 أسئلة كثيرة تجوب في خاطره يكتم حزنه ويرفع عينيه إلى السماء يرجو خالقه أن يمنحه قوة الصبر على الابتلاء. 


الإجابة كانت في الخالة، الشابة العشرينية التي لم تدخل عش الزوجية بعد، تصرخ وتطالب الجميع بالهدوء: "أنا هعتبرها من النهاردة بنتي، مش عايزة اتجوز خلاص".

منذ اليوم الأول تولت الخالة مسئولية ابنة شقيقتها التي لم يسعفها القدر لتلقي عليها نظرة وداع، ليكون اليُتم مصير الطفلة التي لم تدرك من أمرها شيئا، تمسكت الخالة بابنة شقيقتها لم تتركها يوما، كانت رفيقتها ووالدتها وصديقتها، تفرح لفرحها وتحزن لحزنها. 


كبرت أسماء ولم تعرف في الدنيا سوى والدتها "نونة" التي لم تكتشف أنها خالتها سوى عندما بدأت أولى مراحل الدراسة، أخذتها "ماما نونة" من يدها وأدخلتها غرفتها وأمسكت بصورة بها امرأة عشرينية تضحك بقوة، وأخبرتها: "تلك هي أمك التي ولدتك، وأنا والدتك التي ربتك"، شرحت لها كيف أن والدتها توفيت بعد ولادتها.

رغم غياب أمها نشأت أسماء في مناخ أسري تسوده المودة والحب: "لم أشعر يوما بأن اليُتم صفة لحالتي، فأنا تربيت في بيت يغمره الحب، خالتي هي والدتي فأنا لا أعرف غيرها، ولم يتسرب إليَّ يوما أنها ليست والدتي، نتشاجر كما تفعل الأم وابنتها، نلهو مع بعضنا، نحفظ أسرارنا الخاصة، لا شيء يجعلني أشعر أن الأمر غير حقيقي".

كأنَّ القدر أراد للخالة أن تصبح أمًّا فقط لـ "أسماء" رغم زواجها بعد أن أتمت أسماء الـ 5 سنوات، إلا أن القدر كان له رأي آخر في أن تصبح أمًّا، حاولت كثيرا ولم تترك بابًا إلا وطرقته حتى تستطيع أن تنجب لزوجها خلفًا له في الحياة من صلبه، إلا أن كافة المحاولات باءت بالفشل حتى استسلما للأمر، واتفقت هي وزوجها أن الله أكرمهما بـ "أسماء" وحدها لتكون ابنتهما التي وهبها الخالق لهما، ارتضى الرجل بمصيره، وأحب "أسماء" كابنته التي لم ينجبها.


تقول "نونة"، الخالة التي اتخذت موقع الأم: "منذ اليوم الأول لولادة أسماء وأنا أشعر أنها جزء مني، بنتي التي لم ألدها، أتذكر في شهورها الأولى استيقاظي في الليل لإطعامها أو تغيير حفاضاتها، كانت جميلة باسمة، حينها لم أكن قد بلغت بعد عامي الخامس والعشرين ولم يطرق العرسان بابي، وعندما تمت الـ 3 سنوات تمت خطبتي، وبعدها بعامين تزوجت".

تتذكر "ماما نونة" يوم زفافها، وكيف تمسكت "أسماء" ذات الست سنوات بثوبها الأبيض: "يوم عُرسي أمسكت أسماء بيدي، وبكت بحرقة.. كنت أشعر بحزنها.. ليلتها بكيت بعد أن دلفت قدماي إلى شقة الزوجية، لم أتحمل سوى 15 يومًا حتى عدت لها مرة أخرى واحتضنتها، وبكيت".

عندما اشتد عود "أسماء" طالب الأب الحقيقي بأن يعتني بابنته، تزوج من امرأة أخرى، وأراد أن تكبر ابنته في حضنه، تقول أسماء: "أراد أبي أن يأخذني من خالتي بعد تلك السنوات إلا أنني لم أعرف كيف من الممكن أن أحيا وأنا بعيدة عنها، رفضت وتمسكت بالبقاء معها، أتذكر ذلك اليوم جيدا عندما أمسكت بطرف ثوبها والدموع تنهمر مني، وصراخي وصل صداه إلى الشارع رافضة أن أتركها ثانية واحدة".
 في النهاية استسلم الوالد لقرار ابنته وتركها مع خالتها لتكملا معًا رحلة الحياة..
الجريدة الرسمية