رئيس التحرير
عصام كامل

غـضـبـة قـاض لكرامة القضاء


تطالعنا صحائف التاريخ دومًا بمواقف أعلام القضاة الذين كانوا يحرصون على أن تنفذ أحكامهم وقراراتهم ويرون في عدم تنفيذها إهانة للقضاء، ومن هذه المواقف التي غضب فيها قاض مؤمن برسالة القضاء معتز بجلال مهنته أن "شريك بن عبد الله" (المتوفى سنة 178 هـ) وكان قاضي الكوفة في أيام قوة الدولة العباسية وازدهارها.


جاءته امرأة تشكو والي الكوفة، وهو الأمير العباسي "موسى بن عيسى" الذي أرادها أن تبيع له بستانها فلم تبع فاعتدى عماله على ذلك البستان وقلعوا حائطه، فأرسل القاضي "شريك" يطلب خصمها الأمير المذكور فلم يحضر، وأرسل إليه صاحب شرطته فوضعه القاضي في الحبس، فوسط له الأمير رجالًا من أصحابه يبلغون قوله إنه قد استخف به، وأنه ليس كالعامة فحبسهم القاضي.

ركب الأمير العباسي "موسى بن عيسى" بالليل وأخرج المحبوسين، ولما علم القاضي (شريك بن عبد الله) بذلك غضب لأن الأمير (الوالي) لم يحترم قرارات الحبس التي أصدرها.

ولأن الوالي رفض من قبل أن يمثل أمامه بنفسه في مجلس القضاء، غضب القاضي وقال: (والله ما طلبنا منهم هذا الأمر ولكن أكرهونا عليه وضمنوا لنا الإعزاز فيه) ومضى يسير نحو بغداد حيث يلقى الخليفة مستعفيًا معتزلًا العمل القضائي.

ولما علم الوالي بذلك لحقه وجعل يناشده الله ويسأله أن يدع أعوانه ويقول لماذا تحبسهم فقال القاضي: لأنهم مشوا لك في أمر لم يجب عليهم المشي فيه، ولست ببارح حتى يردوا جميعًا إلى الحبس وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين، فاستعفيه مما قلدني "فأمر بردهم جميعًا إلى الحبس".

وعقب ذلك قال القاضي لأعوانه "خذوا بلجامه، قودوه بين يدي جميعًا إلى مجلس الحكم"، فمروا به بين يديه حتى جلس في مجلس القضاء، ودعا "القاضي شريك" المرأة الشاكية وسأل الأمير العباسي "موسى بن عيسى" عما تدعيه فقال (الوالي) صدقت، فأمره القاضي أن يرد جميع ما أخذ منها وأن يبني لها حائطًا في وقت واحد سريعًا، كما هدم فأطاع (الوالي) قائلًا: أفعل.

هذه غضبة قاض لكرامة القضاء ولصون استقلاله ونفاذ أمره وفعالية حكمه في موقف سجله التاريخ للقضاء، الذي يعتز بربه ويتقرب إليه بإحقاق الحق وإجراء العدل.. وللحديث بقية.
الجريدة الرسمية