رئيس التحرير
عصام كامل

حمدي المراكبي! (1)

ماريت على دربكم.. يا فرحى يا وجعي

لابس سديرى قطيفه.. ومزرره بوجعي

بكره تدق الطبول.. واحضر لكم مدعي

أنضر حبيبى بعينى.. يتشفى وجعي ..

هذه الكلمات التى كان يرددها دائما عم حمدي المراكبي الذى اختار موقعه على "دفة المركب" لتوجيهها الاتجاه الذى يقصده. والتى إن ربطنا بين معانيها ومكانه على الدفة لاكتشفنا أننا أمام حالة إنسانية خاصة بطلها شخص يدعى العم حمدي. 

فالناس فى صعيد مصر عادة ما ينظمون الشعر بالفطرة.. والقليل منهم من يستهويه الشعر فيحوله من هواية إلى مهنة.. لكن سماع الشعر بلهجة عم حمدي له وقع خاص! خاصة إذا اختلطت كلماته بماء النهر ولحظات النسيم التى تصاحبه!

اقرأ ايضا: كورونا والأهداف الـ17 للتنمية المستدامة!

فالنيل الذى فى الصباح غير الذى فى المساء.. فلكل وقت نسائمه، ولكل وقت مواجعه.. هكذا كان يقول عم حمدي المراكبي.. فإذا كان الخوف يمنع القلوب من الاحساس بالحياة، فإن الخوف من النيل فى المساء يجعلك تستشعر معناها الدفين، حين تنظر لظلمته ويهزك صوت السكون الماكن على سطحه.. حتى صوت تلاطم الأمواج فى المساء له موسيقى وأحاسيس مغايرة عن تلك التى كنا نسمعها فى الصباح..

ربما كانت هذه المشاعر وتلك الأحاسيس سببا كافيا لأن يعمل عم حمدي على النهر بمركبه الصغير.. فمهنته جعلته دائما قريبا من النهر.. يصادق كل اللحظات التى تمر بالنيل ويستشعر معانيها الدفينة..

فكان يعيش النهار على سطح المركب، وفى المساء يستكين فى "سندرته" المخبأة فى باطن المركب.. ينام فى "بطن مركبه" وكأنه نائم فى بطن النهر، يستشعر دفئه فى الشتاء كما يستشعر برودته فى الصيف..

ورغم شدة تعلقه بالنهر وحرصه على أن يكون دائما على مسافة قريبة من مائه العذب.. إلا أنه كان احرص على أن يكون أولاده بعيدين تماما عن شاطئه.. وحين كنا نسأله عن السب يقول بلهجة عامية بسيطة: النيل مش محتاج مجاذيب زيادة!

اقرأ ايضا: الفقير.. المواطن البهلوان! (2)

كان عم حمدي المراكبي يمتلك ثلاثة أحجام من المراكب.. المركب الأول عبارة عن قارب صغير يسمى "الفلوكة" وكان عم حمدي يطلق عليه اسم "المُسعِف" يستخدمه فقط لنقل فرد أو فردين لأمور عاجلة.. والثاني عبارة عن مركب خشبي متوسط الحجم، تتراوح حمولته من 15 إلى 20 شخصا. ولا يحمل على متنه البهائم، له شراع بسيط أو كما يقولون "قِلع" متوسط الحجم.. والمركب الثالث "الصندل" وهو عبارة عن مركب مصنوعة من الخشب والصفيح المقوى أضخم حجما من المركب الخشبي وله شراع ضخم مقارنة بشراع المركب.. تنقل على متنه البهائم والبضائع والبشر.. كان يسميه عم حمدي "سفينة نوح"!

كان لحمدي المراكبي عادات مغايرة لعادتنا، وأحيانا كانت عادته متناقضة مع بعضها.. فرغم عشقه الجنوني للنيل، إلا أنه لا يعرف العوم ولا يعشق السباحة فى ماء النهر.. ولا يستهويه الصيد ولا أكل السمك.. فقط كان يحب الغوص فى النهر بخياله الواسع.. وينسج حوله قصص وحكايات يقنعنا أحيانا بأنها قد وقت بالفعل، ورغم قناعتنا بأنها من خياله الرحب، إلا أننا كنت نصدقها..

 

فيبدو أنك حين  تحب؛ تسلم لمحبوبك كل شيئ حتى قناعاتك.. تنسج معه حكايات لم تحدث.. وتخلق حوله بخيالك مواقف لم تقع.. كأن قلبك صار صندوقا رحب.. عششت فيه كل تجاربك مع من تحب.. حتى وإن لم تكن قد حدثت!

 

عم حمدى ذلك الرجل النحيل الذى لا يملك سوى ثوبين أحدهما للعمل بالنهار، والثانى فى المساء.. وكان يقول أنا شخصان فى بدن واحد .. فى النهار أحمل الناس على ظهر مركبي.. وفى المساء احتاج لمن يحملني على ظهره.. أكره الخوف كرهي للموت.. وأحب النيل محبتي للسماء.. لا أحب أن يفصل بينهما فاصل.. وأحب دائما أن أكون شاهدا على علاقة العشق التى بينهما!

 

 اقرأ ايضا: الفقير.. المواطن البهلوان!

 

أعشق القمر فى المساء حين أراه يعانق مركبي.. وكأن مركبي فى المساء راحت ترتاح من عناء اليوم فى الترحال على شاطئ النهر.. ووجهت صاريها للسماء.. لتحكي للقمر كيف كان يومها مع شقاء الفلاحين.. حمل النيل على ظهره الكثير.. ماتوا  جميعا.. لكن النيل لم يمت.. لكن النيل لا يموت.. لكن النيل لن يموت..

 

لم تكن حياة عم حمدي عادية كسائر المراكبية.. أو كسائر سكان جزيرتنا.. فقد كان يعشق الهدهد.. وكان يقول صغير حجمه لكن قلبه كالجبل.. لا سلاح فى يده لكن بفصاحته فتح البلاد التى لم تفتحها قوة السلاح.. وكان يقول بلادنا لا تحتاج لأجساد البغال بقدر حاجتها  إلى قلب الهدهد!

نكمل غدا حكاية حمدى المراكبي.

Sopicce2@yahoo.com

 

الجريدة الرسمية