رئيس التحرير
عصام كامل

المدرسة الشعبية.. اللهو الخفي الذي أسقط دولة التلاوة المصرية بالضربة القاضية.. وما علاقة نكسة 1967؟

التلاوة المصرية،
التلاوة المصرية، فيتو

قد يكون الاعتراف بالأخطاء هو أول درجات تصحيح المسار؛ ومن ذلك الاعتراف بتدهور دولة التلاوة المصرية تدهورًا مركبًا ومعقدًا، في مقابل ظهور مدارس عربية وفارسية أكثر نضجًا وانتشارًا؛ لأن هذه الخطوة من شأنها التوقف عن البكاء على الأطلال والتغني بمجد صنعه الأقدمون، قبل أن تدهسه أجيال لاحقة أفسدت كل شيء، وتحسب في الوقت نفسه أنها تُحسن صُنعًا.


دولة التلاوة المصرية في سنواتها الأخيرة، تحتضر ودخلت مرحلة "الموت الإكلينيكي"، دون أية محاولات جادة للتدخل والعلاج؛ ينعكس ذلك على مستوى القراء الإذاعيين وغيرهم، حتى صارت تلاواتهم المرئية والإذاعية والمسجلة مثارًا للتندر والسخرية، والفيديو الأخير الذي يظهر فيه شخص "ينقط" أحد القراء يبدو كاشفًا للمأساة والملهاة التي وصلت إلى شاطئها دولة التلاوة المصرية، فضلًا عن فيديوهات أخرى عديدة يظهر خلالها قراء يرتبكون ويخطئون ويتجاوزون الأحكام، فضلاَ عن أخطاء القراء الإذاعيين في تلاوات الهواء.

Advertisements

 

إرهاصات دولة التلاوة المصرية

يُنظر للقارئ الشيخ أحمد ندا 1865-1935 باعتباره المؤسس الأول والأب الروحي لدولة التلاوة المصرية، كما أنه مُعلم الشيخ محمد رفعت المتوفي في عام 1950.


كان "ندا" قارئًا عظيمًا مبدعًا ملء السمع والبصر، تعلق به العامة والنخبة، حيث توفر له الصوت الجميل والإلمام بأحكام التلاوة، ومراعاة علم النغم والمقامات؛ فضلًا عن تجسده القرآن الكريم في أخلاقه وسلوكياته.

اقرأ أيضًا: 

بسبب المستحقات المالية.. الإذاعة ترفض اعتماد المصحف المرتل للطبلاوي


في كتابه "عباقرة التلاوة في القرن العشرين" يقول "شكري القاضي": "أجمع كل المعاصرين للشيخ أحمد ندا من كتاب وصحفيين وأدباء وشعراء على قامة الشيخ وعظيم دوره في تأسيس دولة التلاوة"، فيما وصفه عبد العزيز البشري قائلًا: "صوت أحمد ندا كان سيد الأصوات وأقواها".


وللتدليل على قوة صوته، قال عنه الصحفي الراحل حافظ محمود: "كانت نافذتنا في بيتنا القديم تطل على مسجد السيدة زينب، وكان صوت القارئ الشيخ أحمد ندا يصلني على بعد نحو 90 مترًا تقريبًا رغم عدم وجود مكبرات صوت حينها، وكان الشيخ يقرأ فيجوّد وكأنه يخطب، وكانت تمتزج في صوته القوة والحلاوة معا".

 

ظهور الشيخ محمد رفعت ورفاقه

وبالتزامن مع وفاة الشيخ "أحمد ندا" كان الشيخ محمد رفعت قد عرفه القاصي والداني، وضاعف من شهرته اعتماده بالإذاعة المصرية في العام 1934، وكذلك الشيخ علي محمود.

اقرأ أيضًا: 

كيف أتقن مصطفى إسماعيل فنون التلاوة دون دراسة؟ |فيديو

 

 وسرعان ما تعددت وتنوعت الفروع اليانعة لشجرة التلاوة المصرية، فأنبت نباتًا صالحًا تمثل في القراء العظام: عبد الفتاح الشعشاعي وعبد العظيم زاهر ومصطفى إسماعيل ومحمد صديق المنشاوي وكامل يوسف البهتيمي وعبد الباسط عبد الصمد ومحمود خليل الحصري ومحمود علي البنا وآخرون، حيث أسهم كل منهم بنصيب وافر في بناء أمجاد دولة التلاوة المصرية التي طافت العالم، ونشرت القرآن الكريم مسموعًا، وكان كل منهم سفيرًا قرآنيًا من طراز فريد، حتى صار العالم كله ينطق على قلب رجل واحد: "نزل القرآن الكريم في مكة، وقُريء في مصر".

 

القراء المصريون علموا العالم أصول التلاوة

كان للقراء المذكورين وغيرهم ممن رافقوهم وعاصروهم شخصياتهم المستقلة وأصواتهم المتفردة؛ ففي دراسة مهمة أعدَّها أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآداب في جامعة سوهاج الدكتور حسن محمد نور عبدالنور، شدد خلالها على أن «القراء المصريين علَّموا العالم الإسلامى أصول التلاوة؛ لأنهم ينطقون اللغة العربية نطقًا سليمًا واضحًا لا لبس فيه»، مستطردًا: «مَن يسمع القراء المصريين يشعر بحلاوة الإيمان وعظمة الخالق ومعجزة القرآن الكريم، فليس هناك من ينافس القراء المصريين أبدًا، وليس هناك من يختلف على أنهم أفضل من قرأوا كتاب الله، وأينما نذهب في أي مكان في العالم نجد أصواتهم، ونجد الجميع يمدحونهم».

اقرأ أيضًا: 

سفير دولة التلاوة في الولايات المتحدة

 

لكل شيء إذا ما تم نقصان

ظلت دولة التلاوة المصرية محتفظة بشخصيتها الراسخة وأعرافها الثابتة وضوابطها الحاكمة حتى نهاية الستينيات، وتحديدًا نكسة 1967؛ حيث تسببت في إحداث شرخ عميق في الذائقة المصرية، وتحولها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وما حدث في مجال تلاوة القرآن الكريم، امتد إلى جميع ألوان الفنون جميعًا، وهو ما يظهر جليًا مثلًا في اختيارات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ في هذه الفترة، وأصبح المصريون يقبلون على ما كان يستحيل قبوله من قبل.


يبدو أن هذا التاريخ يعتبر مفصليًا في تاريخ دولة التلاوة المصرية، ومن عنده بدأ مؤشرها في التراجع سريعًا إلى الخلف، وراح الكمال يختفي تدريجيًا؛ حيث جرى العرف أن لكل شيء إذا تم نقصانًا.

اقرأ أيضًا: 

سفراء دولة التلاوة المصرية يحيون مقارئ القرآن الكريم عالميا


النقصان الذي دب في دولة التلاوة المصرية كان مزلزلًا وعنيفًا؛ حتى يجمع المراقبون والمعنيون والمؤرخون على أن لجان الاختبار بالإذاعة والتليفزيون ربما لم تعتمد قارئًا فذًا واستثنائيًا منذ ذلك التاريخ؛ حيث تشابهت الأصوات وغاب الحفظ والإلمام بفنون التلاوة، وجرى الخروج على ضوابطها وأحكامها؛ جهلًا تارة، وإهمالًا تارة ثانية، واسترضاء لجمهور المستمعين تارة ثالثة.


من هنا ووسط هذه الحالة من الفوضى التي اجتاحت مجال قراءة القرآن الكريم، تم إطلاق وصف المدرسة الشعبية على هذا الجيل من القراء الذي تخلى طوعًا أو كرهًا عن سمت الرعيل الأول من القراء وسماتهم والضوابط المرعية في تلاوة القرآن الكريم خشوعًا وإخلاصًا وإتقانًا، وسرت حالة ممنهجة من الخروج على النص في آداب التلاوة، وتوغلت العصبية للأشخاص على حساب الانحياز لكتاب الله.

اقرأ أيضًا: 

الشيخ محمود عبد الباسط يوجه نصيحة ذهبية لقراء القرآن الكريم

 

إجراءات عاجلة للتنبيه والعقاب

لكن اللافت في هذه الفترة أنه كانت هناك جهات تراجع وتحاسب وتعاقب المخطئ؛ صونًا لكتاب الله، ففي بداية ثمانينيات القرن الماضي.. نشرت الصحف السيارة خبرًا عن إصدار الرئيس الأسبق للإذاعة صفية المهندس قرارًا بوقف القارئ شعبان الصياد 3 أشهر؛ بعد خروجه عن قواعد الأداء الصحيح أثناء إحدى تلاواته.

قرار وقف القارئ شعبان الصياد، فيتو

 

كما تدخل الأزهر الشريف بقوة لمنع القارئ عنتر مسلم 1936-2002 عن التلاوة؛ بسبب التجاوزات الصارخة والأخطاء الفادحة التي أحاطت بتلاواته، رغم ذيوع اسمه وشهرته الفائقة.

وفي مايو 2004 عقدت الرئيس الأسبق لشبكة القرآن الكريم الدكتورة هاجر سعد الدين اجتماعًا مع ثمانين قارئًا بمُختلف الشبكات الإذاعية لتحذيرهم مِن الاستعانة بـ"الهتيفة"، وكان ذلك في حضور نقيب القراء السابق الشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ محمود طنطاوي رئيس لجنة المصحف بالأزهر الأسبق رَحِمَهما الله وعدد آخر من مسئولي الإذاعة، ما يعني أننا بصدد "فوضى تاريخية" يصنعُها مَن يجب أن يكونوا مؤتمنين على كتاب الله تعالى أكثر من غيرهم! ولأنَّ من أمِنَ العقوبة أساءَ الأدب..فإنَّ هذا الانفلات الأخلاقي من بعض القراء وبعض المستمعين يتفاقم يومًا بعد يوم.

هاجر سعد الدين، فيتو

تصريح صادم للدكتور المعصراوي

وفي لقاء متلفز.. أقر الرئيس السابق لشيخ عموم المقارئ المصرية الدكتور أحمد عيسى المعصراوي واعترف بأن 99% من القراء المعاصرين لا يتقون الله ولا يراعونه في تلاواتهم، ولا يشغلهم سوى إرضاء الجمهور ومغازلته وتنفيذ ما يطلبه على حساب مُحكم التنزيل.

الدكتور أحمد عيسى المعصراوي، فيتو

وفي تصريحات خاصة لـ"فيتو".. كشف القارئ الشيخ محمود الطوخي عن مهازل يقترفها بعض القراء في العزاءات من اصطحاب "الهتيفة" و"الصييتة" برفقتهم؛ لإزعاج زملائهم من قراء القرآن الكريم أثناء التلاوة ولإثارة حالة من الفوضى داخل سرادقات العزاء.


وقال "الطوخي" لـ"فيتو" إنه لم يستطع مجاراة هذه التصرفات المخزية التي لا تليق بوقار قارئ القرآن الكريم؛ ما دفعه لمغادرة مصر والاستقرار في دولة الإمارات العربية.

اقرأ أيضًا: 

جنون المشايخ.. قراء القرآن الكريم على خُطى الفنانين لتحقيق الشهرة بأقصر الطرق وركوب الترند


وينظر للقارئ الشيخ محمود الطوخي باعتباره واحدًا من أبرز القراء المجيدين والمتقنين وسفيرًا فوق العادة للقرآن الكريم حول العالم؛ لا سيما أنه يجيد أكثر من لغة أجنبية.

الشيخ محمود الطوخي، فيتو

قراء مهرجانات شعبية

وفي تصريحات سابقة لـ"فيتو".. قال المؤرخ القرآني، الرئيس بمحكمة الاستئناف بالإسكندرية المستشار هشام فاروق: يجب على قارئ القرآن أن يكون وقورًا، ذا هيبة، تام الاحترام لكلام الله، خاشعًا لا يتفاعل ولا يتضاحك ولا يمزح مع الحاضرين في العزاء؛ توقيرًا وإجلالًا لكتاب الله، خاصة أن موقف العزاء هو تذكير بالموت والآخرة ونهاية كل حيّ، منوهًا إلى أن كثيرًا من القراء الحاليين تراهم يرتفعون وينخفضون ويتحرَّكون ويهتزُّون ويضطربون ويتمايلون، كأنَّ بهم مَسًّا مِن الشيطان، وتراهم يحركون أيديهم – بحركات تمثيلية - كما لو كانوا يُغنون تماما، ويريدون أن يقرأوا القرآن بطريقة غناء "المهرجانات" في الأغاني الشعبية السوقية، حيث ترى أحدهم يقرأ فوق الميكروفون مرة وتحته مرة وعن يمينه مرة وعن يساره مرة! ويتبقى أن يجلس فوق الميكروفون أو يأخذه معه عندما يغادر الليلة لتكتمل المأسأة، وتراهم يتفاعلون ويتحادثون ويتضاحكون – أثناء تلاوة القرآن - مع الجُهلاء من مُعجبيهم.

اقرأ أيضًا: 

مؤرخ دولة التلاوة المصرية المستشار هشام فاروق: بعض القراء يقرؤون القرآن بطريقة "المهرجانات" ونعيش عصر "القارئ الأراجوز" ( حوار )

وأخيرًا.. فإن دولة التلاوة المصرية تمر هذه الأيام بأسوأ حالاتها على كل المستويات، وسط تعاظم نفوذ مدارس قرآنية عربية وفارسية تتسلل تدريجيًا لانتزاع دورها والقضاء عليه بعدما  كانت يومًا ما واحدًا من أهم روافد القوى الناعمة في مصر..فماذا نحن فاعلون؟

ونقدم لكم من خلال موقع "فيتو"، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم، أسعار الدولار، أسعار اليورو، أسعار العملات، أخبار الرياضة، أخبار مصر، أخبار الاقتصاد، أخبار المحافظات، أخبار السياسة، أخبار الحوادث، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي، الدوري الإيطالي، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا، دوري أبطال أفريقيا، دوري أبطال آسيا، والأحداث الهامة والسياسة الخارجية والداخلية، بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

 

الجريدة الرسمية
عاجل