رئيس التحرير
عصام كامل

مؤرخ دولة التلاوة المصرية المستشار هشام فاروق: بعض القراء يقرؤون القرآن بطريقة "المهرجانات" ونعيش عصر "القارئ الأراجوز" ( حوار )

المؤرخ المستشار هشام
المؤرخ المستشار هشام فاروق

هناك خلط بين حُسن صوت القارئ وتنغيمه وتطريبه وبين حُسن أدائه 
توقفتُ عن سماع الإذاعة منذ 15 عاما بسبب انحدار مستوى القراء وانتشار المقلدين وعدم وجود الأصوات الأصيلة 
بعض القراء الجدد غير حافظين..وأطالب مسؤولي الإذاعة بإعادة اختبار من تم اعتمادهم بعد عام 2011
الإجازات المضروبة أفسدت أجيالًا من القراء..وأصحاب محال الفراشة يتحكمون بسوق التلاوة
قارئ القرآن يجب أن يكون وقورًا لا يتفاعل ولا يتضاحك ولا يمزح مع الحاضرين
الشيخ الحصري هو القارئ الأكثر عالمية في كل القراء
دولة التلاوة المصرية لفظت أنفاسها الأخيرة في الألفية الجديدة
 

 

يعزف المؤرخ لدولة التلاوة المصرية المستشار هشام فاروق الرئيس بمحكمة استئناف الإسكندرية منفردًا في نقد قراء القرآن الكريم، بما يملكه من متابعة ورصد وتدقيق خلال أربعة عقود ونصف من الزمان على الأقل. 


يعرض آراءه بجرأة شديدة لا يخشى في كتاب الله لومة لائم. يهابه القراء الجدد ويخشونه نقده اللاذع. 


يري أن دولة التلاوة المصرية عرفت طريق التراجع منذ ثمانينات القرن الماضى، وهذا التراجع بلغ ذروته في العقدين الأخيرين. 


يطالب مسؤولي الإذاعة المصرية بإعادة اختبار جميع القراء الذين تم اعتمادهم بعد العام 2011. يجزم بأن حُسن الأداء مُقدم على حُسن الصوت، وأن قاريء القرآن الكريم يجب أن يتسم بالخشوع والوقار والجدية. 


ويناشد الجهات المعنية، وفي القلب منها: الأزهر الشريف، أن يطلعوا بأدوارهم في إعادة الروح للدولة المصرية وأحياء مجدها الغائب. 


وبمشرط الجراح الماهر الباهر يجدد ملامح الانهيار وطريقة العلاج وخريطة التعافي. 
"ڤيتو" التقت المستشار هشام فاروق وأجرت معه حوارًا مطولًا عن أحوال دولة التلاوة المصرية:

 

- تنفردون تقريبًا بالكتابة في نقد أداء قراء القرآن الكريم وبعض الأوضاع التي تخصُّهم..فما السبب وراء الاهتمام بهذه القضية؟


- تربيتُ في وسط قراء للقرآن، وتعلمتُ منهم بشكل عملي كيف يكون حُسن الأداء في التلاوة، وأهمية توافق السلوك الشخصي للقارئ مع كتاب الله، وعاصرتُ عددًا كبيرًا من كبار القراء وعباقرتهم، كما تعلمتُ من والدي حب الاستماع إلى القرآن ووجوب توقيره بشكل تام، واستكملتُ ذلك بالبحث والقراءة والدراسة. والاهتمام بهذه القضية يرجع إلى أهمية كتاب الله ذاته، وهو من أول ما يُسأل عنه المسلم يوم القيامة توقيرًا وعملًا به.

 

- هل يفتقد مجال التلاوة عمومًا إلى النقاد الفاهمين والجادين، وهو ما تسبب في تفاقم الأخطاء حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن؟
- الآن بالتأكيد نعم. فهناك خلط عند المهتمين بمجال قراءة القرآن بين حُسن صوت القارئ وتنغيمه وتطريبه، وبين حُسن أدائه من حيث خشوعه والتزامه بأحكام التجويد والوقف والابتداء وسلوكه الشخصي توقيرًا للقرآن وعملًا به. ففي حين يهتم الناس بالأمر الأول، فإنَّ الأمر الثاني هو الأهم بكل تأكيد. 
القارئ ليس مغنيًا ولا بديلًا للمُغني، ولا ينبغي أن يكون، ومهمته توصيل معاني آيات القرآن إلى المستمع بأفضل صورة، وهو ما يتحقق بالأمر الثاني. في أزمنة ماضية كان أول ناقد للقارئ من نفس مجاله، وهما الصفان الأولان من المستمعين له في الليلة، إذ كان هذان الصفان محجوزين لقراء كل بلدة ومحفظيها! 
كانوا كثرة وقتها بحيث يجلسون قريبا من الشيخ القارئ، وكانوا جميعًا من الحفظة الأثبات، فكانوا يستمعون إلى القارئ الذي أتى إليهم في عُقر دارهم يُحصون عليه حركاته وسكناته وشارداته ووارداته، ويجلسون له مثل الرصد، فإن أخطأ ردوه على الملأ! وكان القراء الكبار المشاهير وقتها يعملون لهؤلاء الحفظة المتقنين من محفظين وقراء ألف حساب، فكانوا دائمًا في أشد الحرص والانتباه، يأتون بأفضل ما لديهم من قراءة. 
أمَّا الآن فقد صار هذان الصفان يحتلهما منتفعو القارئ ومشجعوه ومَن يأتي بهم – بالأجر – ليملأوا الدنيا صراخًا وهتافًا له كأنهم في ملعب كرة أو مولد.
قلَّ الحفظة المتقنون وتواروا احترامًا للقرآن الذي يحملونه في صدورهم واحترامًا لأنفسهم من أن يجترئ عليهم الغوغاء والفُساق! علما بأنَّ الناقد لقارئ القرآن ينبغي أن يكون مُلمًا بالقرآن – إن لم يكن يحفظه كله فعلى الأقل عارفًا بمواقعه، عالمًا بمواضع الاستشهاد منه - مُلمًا بعلومه وتفسيره، وقد قلَّ – أو ندر مع الأسف – مَن تتوافر فيهم تلك الصفات؛ ما أدى إلى تفاقم أخطاء القراء دون نكير!

- تعكس كتاباتكم  التي تحظى باهتمام وتقدير بالغين، استياءكم الشديد مما آل إليه حال دولة التلاوة المصرية..فهل الواقع بكل هذا السوء؟
- نعم بكل تأكيد! ومَن هم في مجال التلاوة والقريبون منه يعلمون ذلك تمامًا. دليلُ ذلك تراجع مستوى وترتيب الطلبة المصريين في مسابقات القرآن الدولية في الخارج، وهو أمر لاحظه الكثيرون وأشاروا إليه، كما كثرت الشكوى من مستوى وأداء وسلوك القراء الذين يسافرون إلى الخارج بشكل غير رسمي بدعوات من مكاتب وجمعيات، وهو ما لمستُه بنفسي من خلال ما يردني شخصيًا من شكاوى من خارج مصر بخصوص ذلك مع الأسف.

- هل تتفق مع من يؤكدون تراجع دولة التلاوة المصرية إلى حد الانهيار..وما هي ملامح هذا التراجع على نحو من التفصيل؟
- أتفق تمامًا. أمَّا ملامح هذا التراجع فقد ذكرتُ آنفا أوضحُها وأبرزُها: تراجع مستوى وترتيب الطلبة المصريين في مسابقات القرآن الدولية في الخارج - كثرة الشكوى من مستوى وأداء وسلوك القراء الذين يسافرون إلى الخارج خاصة مَن يسافرون بشكل غير رسمي ؛ وأُضيف إليها: قلة الحُفاظ المتقنين المجوِّدين المعلمين، وعدم استيعاب المقارئ الرسمية لأعداد طلاب الحفظ، ولجوء مكاتب التحفيظ الخاصة إلى طريقة التجارة دون اهتمام بمستوى الطالب حفظًا أو إتقانًا أو سلوكًا.

وتفضيل أصحاب الليالى والعزاءات القارئ المغني - إن جاز التعبير - على القارئ الملتزم، وتحكُّم أصحاب محلات الفراشة في سوق القراء، وتساهل لجان الإذاعة في قبول قراء مقلدين مُغنين لا يصلحون من جهة الحفظ والأحكام والسلوك وتفضيلهم على مَن هم أفضل منهم حفظًا وأحكامًا وسلوكًا

ما ترتب عليه نشوء نشء مُقلد بالسماع دون علم، غير حافظ للقرآن، جاهل بالتجويد وعلوم القرآن وأصول التلاوة وآدابها، غير موقر للقرآن ولا مُدرك لقدره وخطورته، كل هدفه من دخول مجال التلاوة اكتساب المال ومنافع الدنيا بالتحصل على أجور خيالية مُغالى فيها وإتخام حسابات البنوك على حساب كلام الله بحيث صارت التلاوة مهنة مَن لا مهنة له! كل ذلك أوصلنا إلى حالة الانتكاس والتدهور والتراجع الحاد فى مجال تلاوة القرآن الكريم على النحو الذى نراه حاليا بحيث صارت المسألة تجارة فى تجارة!

- ما هي الجهات التي تتحمل مسؤولية تراجع مستويات قراء القرآن الكريم؟
- في الحقيقة قبل أن أتكلم عن مسؤولية أية جهة عن هذا التراجع، لا بد أن أؤكد على أن تلك المسؤولية يتحملها الجميع – المجتمع كله – ابتداءً من الأسرة والمدرسة لسوء التربية وسوء التغذية وتراجع المستوى الديني والأخلاقي والتعليمي، وعدم توقير القرآن ومعرفة قدره، وعدم الاهتمام بعلوم القرآن، وقلة الاهتمام باللغة العربية، وقلة الإتقان فى العمل، والسعى خلف مكاسب الدنيا السريعة؛ ثم تأتي مسؤولية الأزهر والأوقاف بسبب قلة المعاهد الأزهرية والمقارئ الرسمية وعدم استيعابها لأعداد طالبي الدراسة والحفظ، وتساهل مُعلمي القرآن في اختبار طلبتهم حفظا وسلوكًا، ومسؤولية الإذاعة والتليفزيون في قبول قراء مُقلدين مُغنين لا يصلحون من جهة الحفظ والأحكام والسلوك، ومسؤولية نقابة المحفظين والقراء في قبول غير الحفظة في عضويتها تساهلًا في اختبار حفظهم للقرآن مجاملة؛ ثم مسؤولية كل تلك الجهات في متابعة وعدم اتخاذ إجراءات صارمة ضد أكثر القراء غير الملتزمين خاصة الإذاعيين منهم.

- ألمحتَ من قبل إلى أن بعض القراء ليسوا حافظين من الأساس لكتاب الله، واستدللت بذلك على استعانتهم بالمصحف المفتوح أو بعض الوسائل التكنولوجية الحديثة..فهل يمكن اعتماد قراء غير حافظين بالإذاعة؟
- الأولى أن يُوجَّه هذا السؤال إلى مسؤولي الإذاعة، لكن الواجب أن يكون القارئ الإذاعي حافظًا للقرآن كله، بحيث لا يُقبل أي قارئ في الإذاعة والتلفزيون لا يحفظ القرآن كله - هذا ما جرت عليه الإذاعة منذ إنشائها - لكن مع الأسف هذا لا يحدث بسبب تساهُل لجان الاختبار والاعتماد في الإذاعة – منذ ربع قرن أو أكثر - في اختبار حفظ بعض القراء لأسباب مختلفة لا داعي لذكرها، بحيث تسرب إلى الإذاعة والتلفزيون عدد كبير من القراء الذين لا يحفظون القرآن كله، حتى إنهم يُخطئون والمصحف مفتوح أمامهم، وبعض تلك الأخطاء لا يُغتفر كأخطاء التشكيل التي تدل على أن القارئ لم يقرأ الآية التي أخطأ فيها من قبل، بل لم تمر عليه أصلا

- تحدثت أكثر من مرة عن الأوضاع التي يظهر عليها عديد من القراء في حفلات العزاء ووصفتهم بـ"الأراجوزات"..فهل ما زلت مُصرًا على هذا الوصف ولماذا؟
- بالتأكيد نعم! فالواجب على قارئ القرآن أن يكون وقورًا، ذا هيبة، تام الاحترام لكلام الله، خاشعًا لا يتفاعل ولا يتضاحك ولا يمزح مع الحاضرين في العزاء؛ توقيرًا وإجلالًا لكتاب الله، خاصة أن موقف العزاء هو تذكير بالموت والآخرة ونهاية كل حيّ، لكن هيهات! فهؤلاء تراهم يرتفعون وينخفضون ويتحرَّكون ويهتزُّون ويضطربون ويتمايلون، كأنَّ بهم مَسًّا مِن الشيطان، وتراهم يحركون أيديهم – بحركات تمثيلية - كما لو كانوا يُغنون تماما! 

يريدون أن يقرأوا القرآن بطريقة غناء "المهرجانات" في الأغاني الشعبية السوقية! غاغة وزيطة وهيصة وضجيج وصريخ ورقص وتصفيق! فترى أحدهم يقرأ فوق الميكروفون مرة وتحته مرة وعن يمينه مرة وعن يساره مرة! ويتبقى أن يجلس فوق الميكروفون أو يأخذه معه عندما يغادر الليلة لتكتمل المأسأة! وتراهم يتفاعلون ويتحادثون ويتضاحكون – أثناء تلاوة القرآن - مع الجُهلاء من مُعجبيهم، فأنى يأتيهم الخشوع؟! وإذا كان القارئ يفعل ذلك فلابد أن يضحك السامِع أو يصرخ أو يتصايح أو يرقص كما لو كان في مَرقص أو ملهى ليلي وليس في مأتم! هذه حماقة كبيرة! ما هكذا تكون قراءة القرآن ولا هكذا يكون الخشوع!

-إذن ما دور نقابة قراء ومحفظي القرآن الكريم في ضبط مثل هذه الأوضاع السيئة، وهل الأمر يتطلب تشريعات جديدة؟
- المفترض أن نقابة محفظي وقراء القرآن الكريم لها دور كبير في ضبط هذه الأوضاع السيئة، فقانون إنشاء النقابة رقم 93 لسنة 1983  أتاح لها صلاحيات كبيرة في الحفاظ على القرآن الكريم وتراثه ومنع ووقف أي قارئ متجاوز وإبلاغ الجهات المختصة عنه، لكن مع الأسف هذا لا يحدث إلا نادرًا! وإنْ حدث فلا يكون إلا مع قراء غير مشهورين لا يعرفهم أحد! ولقد قلتها مرارًا: إنه لا يمكن للنقابة أن تردع المتجاوزين وغير الملتزمين من القراء - ردعًا عامًا - إلا إذا بدأت أولا بالإذاعيين منهم المتجاوزين في الليالي والعزاءات، ولكن هذا لا يحدث مع الأسف. والأمر لا يتطلب تشريعات جديدة، من وجهة نظري كرجل قانون، فحتى لو لم يتغير القانون القائم فإن في هذا القانون ما يُمكِّن النقابة من أداء دورها في المحافظة على القرآن الكريم بفعالية إن أرادوا ذلك!

 

- هل منح الضبطية القضائية لمجلس النقابة والنقابات الفرعية يكون حلًا لضبط المخالفين والمتجاوزين؟
- لا؛ فالضبطية القضائية تحتاج رجالًا شديدي الحرص على كلام الله بالغي التوقير له ذوي سمات شخصية خاصة مثل القراء المشايخ: محمود علي البنا وأحمد محمد عامر وعبد الله سليمان شلبي وأحمد الرزيقي وأحمد أبو المعاطي، لكن هؤلاء في القبور الآن مع الأسف!

- وما المعايير والضوابط الذي يجب أن تعتمدها الإذاعة عند اختيارات واختبارات القراء؟
- ثلاثة أمور لا رابع لها: أولها: حفظ القرآن كله حفظًا تامًا، بحيث يتم اختبار حفظ القارئ المتقدم من أرباع مختلفة، ولا سيما الأرباع الصعبة وغير المطروقة. ثانيها: إجادة أحكام التجويد وعلوم القرآن خاصة الوقف والابتداء إجادة تامة. ثالثها: حُسن الصوت.  
وأنصح بثلاثة أمور، أولها: أن يكون ضمن تشكيل لجنة الاختبار والاستماع الموحدة في الإذاعة ثلاثة على الأقل من الأعضاء الفنيين – مشايخ مُحفظين – من ذوي السُّمعة الطيبة والنزاهة وطهارة اليد. ثانيها: أن يكون من حق هؤلاء الأعضاء الفنيين منفردين أو مجتمعين منع اعتماد القارئ أو وقفه حتى لو وافق عليه الموسيقيون والموظفون في اللجنة. 
وثالثها: تشكيل لجنة عُليا لقبول القراء بالإذاعة والتلفزيون تكون مهمتها مراقبة أعمال اللجنة الموحدة ومدى مطابقتها للقواعد، ويكون من حق المستمعين الشكوى إليها واستئناف قرارات اللجنة الموحدة أمامها! فالإذاعة للمستمعين وليس لسواهم! لابد أن يكون لهم رأي فيما وفيمَن يسمعون!

 

- مَن من القراء الجدد أو المعاصرين الذين لا تجد غضاضة في الاستماع لهم ومتابعتهم، ومن ترى فيهم امتدادًا للجيل القديم؟
- توقفتُ عن سماع الإذاعة منذ نحو خمسة عشر عامًا أو يزيد؛ بسبب انحدار مستوى القراء وانتشار المقلدين وعدم وجود الأصوات الأصيلة، ولهذا لا أستمع إلى القراء الجدد إلا لو أرسل لي أحد فيديو لأحدهم يتجاوز فيه في التلاوة، فأستمع فقط في حدود معرفة التجاوز أو الخطأ. أستمع فقط إلى القراء القدامى أصحاب الأصوات الأصيلة، ولا يجذبني إلى القارئ صوته فقط، وإنما الأهم قبل ذلك احترامه وتوقيره للقرآن وسلوكه المستقيم خارج مجال التلاوة، وبالتأكيد حفظه المتين وإجادته للأحكام. ولعل هذا هو السبب الأساسي في إعراضي عن سماع القراء الجدد. 


أما بخصوص القراء المعاصرين فما زلتُ قادرًا على سماع بعضهم ممَن التحقوا بالإذاعة حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي مثل القارئين الشيخين: جمعة مختار وإسماعيل الطنطاوي – وأشيد بمتانة حفظهما للقرآن وإجادتهما للأحكام – من قراء الإذاعات الطويلة، والقراء المشايخ: محمد السيد السعدني وحسن عوض الدشناوي والطبيب أحمد الزارع من قراء الإذاعات القصيرة، وأراهم امتدادا للأجيال القديمة من جهة الحفظ والإتقان والالتزام. وما عدا ذلك فأكثر سماعي لقراء الأجيال الأقدم...من جيل السبعينيات وما قبله.

- تصف القاريء الشيخ محمود خليل الحصري- رحمه الله- بـ"العالمي"..فلماذا، وهل هذا الوصف ينطبق عليه وحده؟
- بالتأكيد وصف "العالمي" لا ينطبق فقط على الشيخ الحصري، لكنه ربما في وجهة نظري هو القارئ الأكثر عالمية في كل القراء؛ بما أنه هو الوحيد رأس التلاوة المصرية من الجهتين:القراءة والإقراء. وهو بهذا يتميز عن غيره. 
وهو الوحيد الذي قرأ في الأمم المتحدة والكونجرس الأمريكي، كما استقبله الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في البيت الأبيض. الشيخ الحصري له شعبية طاغية خارج مصر؛ بسبب مصاحفه المرتلة التي استفاد منها حتى أصحاب اللسان الأعجمي في كل أنحاء العالم. تلك المصاحف هي الأجود والمرجع والعُمدة على مستوى العالم الإسلامي كله.

- لو أرَّخنا لدولة التلاوة المصرية..متى كانت الإرهاصات الأولى، ومتى وصلت إلى الذروة، ومتى بدأ الانهيار؟
- الإرهاصات الأولى لدولة التلاوة المصرية بشكلها الحديث ربما كانت من منتصف القرن التاسع عشر، وأشرقت شمسها في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وبلغت ذروة تألقها وازدهارها ومجدها في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وبدأت رحلة التراجع في السبعينيات والثمانينيات، وأصابها المرض في تسعينيات القرن الماضي، ولفظت أنفاسها الأخيرة في الألفية الجديدة... أقول هذا بعد نحو 45 عامًا من السماع، ويتفق معي فيه الكثيرون.

- ما هي الخطوات التي يمكن أن تعيد دولة التلاوة المصرية..هل تكون البداية مثلًا بإعادة الدور الغائب للكتاتيب؟
- المسألة لن تتحول من النقيض إلى النقيض مباشرة، بل ينبغى وقف التدهور أولًا، وهذا يقتضى بعض الإجراءات لاستئصال المرض فى البداية قبل بدء مرحلة التعافي، لذلك ينبغى اتخاذ عدة إجراءات هامة وضرورية من بينها: عدم السماح بتلاوة القرآن الكريم فى المحافل العامة إلا لمَن كان عضوًا بنقابة محفظى وقراء القرآن الكريم أو بتصريح منها – إذا لم يكن عضوًا فيها – وذلك بعد اختباره أمام لجنة متخصصة منها، على أن تكون الاختبارات جادة وصارمة ولا مجال فيها للوساطات ولا المجاملات

وتجريم القراءة دون علم أو حفظ وبغير تصريح من النقابة مع تشديد عقوبة مَن يفعل ذلك؛ خاصة حال تكرار المخالفة، وعرض الإجازات القرآنية على لجنة علمية خاصة لفحص مدى مصداقيتها. وأؤكد على ضرورة تطبيق قانون النقابة القائم على القراء المتلاعبين وغير الملتزمين بإبلاغ النيابة العامة عمَن يخالف أحكام التلاوة حتى لو لم يكونوا من أعضائها، كما يجب عدم الاكتفاء بلجنة الاختبار والاستماع الموحدة بالإذاعة والتلفزيون، وتشكيل لجنة عُليا لقبول القراء بهما تكون مهمتها مراقبة أعمال اللجنة الموحدة ومدى مطابقتها للقواعد، واستئناف قراراتها أمامها، وذلك منعا من تسرب القراء المتلاعبين وغير الملتزمين إلى الإذاعة والتلفزيون. هذه خطوات استئصال المرض. 
 

أمَّا عن خطوات إحياء وإعادة دولة التلاوة المصرية فمن الصعب حاليا إعادة الكتاتيب بشكلها القديم، وإنما يجب توسيع قاعدة التعليم والتعلم من تحفيظ القرآن وحفظه بالتوسع فى المقارئ الرسمية التابعة لوزارة الأوقاف والاهتمام بتحفيظ القرآن بالمعاهد الأزهرية التابعة للأزهر وجعل مكاتب التحفيظ الخاصة تحت الإشراف المباشر للأزهر، ورفع أجور ومكافآت المُحفظين ومُعلمى القرآن بشكل يوفر لهم حياة لائقة ورفع مستواهم العلمى بعقد دورات تدريبية واختبارات دورية لهم، وهو ما يجعل العلماء يُقبلون على مهنة التحفيظ ويُبعد الجهلة والمتاجرين بتلك المهنة عنها، على أن يتم التنبيه إلى أن الأهم من حفظ القرآن وتحفيظه إنما هو فهمه والعمل به وتطبيقه فى السلوك الشخصى ما يُبعد طالب الحفظ عن التفريط من جهة وعن التطرف من جهة أخرى.

 

- من هم قراؤك المفضلون من الرعيل الأول..وما جماليات صوت كل منهم؟
- كل قراء الرعيل الأول مُفضلون عندي. كلهم أصوات أصيلة وعبقرية وحفظة ومتقنون وملتزمون ومخلصون لكلام الله حسبما بلغنا عنهم. وإن كنت أرى أن الشيخ محمد رفعت هو أفضلهم على الإطلاق. كان صوت الشيخ - كما يحكي الأقدمون ممَّن سمعوه - أروع كثيرًا من تلك التسجيلات القديمة المُتاحة التي لا تعبر بشكل سليم عن إمكانات صوته. كان يقرأ القرآن كما ينبغي أن يُقرأ: بالحُزن. وفي صوت الشيخ شجن عميق بحيث إن أغلب مستمعيه كانوا يبكون تأثرًا بقراءته الحزينة. لم يكن الشيخ يضحك ولا حتى يبتسم أثناء قراءة القرآن، بل ولا يتجاوب مع استحسان الناس. 

يحكي قدامى السميعة أنك كنت تستطيع أن تحس بوضوح أن الشيخ رفعت ينفصل تمامًا عن الأجواء المحيطة به عندما يقرأ ولا يتفاعل مع جمهور المستمعين. كنت تشعر أن الشيخ يقرأ للملأ الأعلى في السماء قبل أن يقرأ لجمهور الأرض! هذا أكثر ما يهمني في القارئ، وأهم من جماليات صوته. 
ولهذا أعتبر الشيخ رفعت أفضل قارئ في تاريخ مصر. وعلى نفس الشاكلة كان القراء المشايخ: محمد صديق المنشاوي وعلي حجاج السويسي وعبد العزيز علي فرج يقرأون القرآن كما ينبغي أن يُقرأ: بالحُزن. في الحقيقة كل قراء الرعيل الأول وحتى مَن لحقهم من قراء الجيلين الثاني والثالث من قراء الإذاعة ممتازون وعلى أعلى مستوى في القراءة. يطيب لي دوما الاستماع إليهم.

 

- ما رأيك في خريطة التلاوات بإذاعة القرآن الكريم وهل تعوزها العدالة والمساواة؟
- من وجهة نظري نعم...وربما يكون هذا راجعًا لكثرة القراء وتصنيفهم إلى قراء إذاعات طويلة وقصيرة، وهي ما أراها تفرقة تحكمية وغير مُنصفة، وإن كان الأمر بخصوص هذا التصنيف راجعًا إلى التخطيط الديني بالإذاعة وليس إلى شبكة القرآن الكريم.

 

- أشرتَ من قبل إلى أن هناك قراء أكابر بالإذاعة يتعرضون للظلم ولا تذاع لهم تلاوات تقريبًا.. من أبرز هؤلاء القراء؟
– هناك قراء إذاعيون عظام – وبعضهم من الرعيل الأول – ضاعت أو تلفت أو مُسحت تسجيلاتهم من الإذاعة مثل القراء المشايخ: زكي محمد شرف ومحمد سليمان وأحمد التهامي القناوي وجودة أبو السعود وغيرهم، وهؤلاء لا تعرف الإذاعة عنهم شيئا الآن على الإطلاق كأنهم لم يقرأوا فيها أبدًا. وهناك قراء إذاعات طويلة (نصف ساعة) لا يذاع لهم تلاوات تقريبا مثل المشايخ: محمد فريد السنديوني وفتحي محمد العطار وربيع زين. وهناك قراء صنفتهم الإذاعة قراء إذاعات قصيرة (ربع ساعة) رغم أنهم قرأوا على الشبكة الرئيسية ولهم تسجيلات نصف ساعة، وبعضهم قراء تليفزيون ومن الرعيل الأول لقراء الإذاعة مثل المشايخ: عبد الرحمن الدروي وأحمد سليمان السعدني ومحمد حسن النادي وعبد العزيز خلف الله البرجيني والسعيد عبد الصمد الزناتي وغيرهم، وأيضا كل قراء الإذاعات القصيرة، وهم حوالي ثلاثين قارئًا أو يزيد.

 

- ما الرسالة التي توجهها لنقيب القراء ورئيس الإذاعة ورئيس شبكة القرآن الكريم والقراء الحاليين؟
- رسالتي لنقيب القراء: إن الله بوأك هذا المنصب لتُدافع عن كلام الله وليس عن أحد سواه، فلا تُجامل على حساب كتاب الله. أما رسالتي لرئيس الإذاعة: لا يمكن أن تكون لجنة الاختبار والاستماع الموحدة هي المسئولة وحدها عن قبول القراء وترقيتهم بالإذاعة والتلفزيون بدون محاسب ولا رقيب ولا معقب! لذا فإنني أدعو - للمصلحة العامة - لتشكيل لجنة عليا لقبول القراء بالإذاعة والتلفزيون تكون مهمتها مراقبة أعمال اللجنة الموحدة ومدى مطابقتها للقواعد، ويكون من حق المستمعين الشكوى إليها واستئناف قرارات اللجنة الموحدة أمامها! فالإذاعة للمستمعين وليست لسواهم. كما إنني أدعو لإعادة اختبار كل قراء الإذاعة الذين تم اعتمادهم منذ بداية الألفية الجديدة أو على الأقل منذ عام 2011. 


أما رسالتي لرئيس شبكة القرآن الكريم: أدعو إلى تشكيل لجنة من المتخصصين لسماع التلاوات المسجلة في الأمسيات الدينية قبل إذاعتها. فبعضها بها أخطاء مع الأسف، وبعضها يغلب عليها التنغيم والتطريب على حساب الأحكام بحيث صارت غناء، وهذا أمر لا يليق ويوقع الشبكة في حرج كبير.
أما رسالتي إلى القراء الحاليين فأقول لهم: اتقوا الله في كلامه الأعظم الذي تقرأونه وإياكم والمتاجرة به.

- بما إن مجال نقد القراء يكاد يكون فقيرًا..فلماذا لم تقم بجمع كتاباتكم المتناثرة في الفضاء الإلكتروني في كتاب ضخم؛ حتى تعم الفائدة ويكون عونًا على الإصلاح؟
- الفكرة موجودة لكنها مؤجلة بسبب الانشغال بالعمل القضائي. تحتاج الفكرة إلى وقت ونوع من التفرغ ليخرج الكتاب بصورة لائقة، وهو الأمر غير المُتاح لي حاليا، وربما يتيسر ذلك في المستقبل إن أذن الله.

الجريدة الرسمية