رئيس التحرير
عصام كامل

ضمانات حقوق الإنسان عبر العصور (2)

ولازلنا مع مسيرة تطور ضمانات حقوق الإنسان التي بدأت في إنجلترا عام 1215، مرورًا بإعلان فرجينيا عام 1776 وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي في والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة بهيئة الأمم المتحدة في ديسمبر 1948، ثم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، حتى صدر قانون الإجراءات الجنائية عام 1950 في مصر.


يهدف قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950 إلى كفالة حق الدولة بالعقاب عن طريق منحه للسلطة القضائية حقًا في البحث والتحري وجمع الأدلة، وأجاز لها مباشرة إجراءات معينة للوصول إلى الحقيقة، وفي المقابل وضع قيوداً على هذه السلطة بوصفها ضمانات للمتهم ليتمكن من معرفة ما له من حقوق، وينظم الوسائل الدفاعية التي سلكها في سبيل حمايته، والاستجواب كإجراء تحقيق فهو أولًا وسيلة لكشف الحقيقة بوصفه إجراء من إجراءات جمع الأدلة، وهو ثانيًاً وسيلة دفاعية بوصفه قيدًاً على السلطة القضائية يمكن المتهم من أن يعلم بالتهمة الموجهة إليه وبالأدلة المقامة ضده، ليتاح له إبداء ما يساعده في كشف براءته.

الضبط القضائي
فمن خلال الاستجواب تتمكن سلطة التحقيق، بعد التثبت من شخصية المتهم، أن تناقشه في التهمة المنسوبة إليه على وجه مفصل في الأدلة القائمة إثباتاً ونفيًا، خلافًا لما هو عليه إجراء سؤال المتهم الذي يقوم به أعضاء الضبط القضائي في مرحلة جمع الاستدلالات، فالأخير ما هو إلا سماع أقوال المتهم فيما يتعلق بالتهمة المسندة إليه دون الخوض في جزئيات التهمة ودون تحقيق دفاعه.. ويقر القانون المصري هذا الإجراء في المواد (123، 124، 125) منه، والمادة (123) توجب على سلطة التحقيق، عند حضور المتهم لأول مرة في التحقيق التثبت من شخصيته ثم تحيطه علماً بالتهمة المنسوبة إليه ويثبت أقواله في المحضر.

ووفقاً للمادة (124) فإنه لا يجوز لسلطة التحقيق، في غير حالة التلبس وحالة السرعة بسبب الخوف من ضياع الأدلة، أن يستجوب المتهم بجناية أو يواجهه بغيره من المتهمين أو الشهود إلا بعد دعوة محاميه للحضور إن وجد، ولا يجوز للمحامي الكلام إلا بإذن سلطة التحقيق له، وتوجب المادة (125) المعدلة السماح للمحامي بالإطلاع على التحقيق في اليوم السابق على الاستجواب أو المواجهة ما لم يقرر القاضي غير ذلك، وفي جميع الأحوال لا يجوز الفصل بين المتهم ومحاميه الحاضر معه أثناء التحقيق وإغفال مواجهة المتهم بالاتهام ومواجهته بأدلة هذا الاتهام يجعل التحقيق باطلًا، وضمانة مواجهة المتهم بالاتهامات الموجهة إليه هي من الضمانات الجوهرية في أي نظام اتهامي.

مواجهة المتهم
وكانت بداية ترسيخ هذا المبدأ ما سبق وذكرناه من إحضار جسم المتهم أو الهابس كوريس بوصفه إجراءً جوهريًا لإحضار متهم محتجز أمام القاضي لإثبات شرعية احتجازه، وبالطبع يتم مواجهة المتهم بما هو منسوب إليه وأسباب احتجازه وإبداء رأيه في هذه الاتهامات، إلا أن القرآن الكريم قبل هذا النظام بأكثر من ألف عام وضع أساسًاً واضحًا لضرورة مبدأ المواجهة مع من ارتكب جريمة أو مخالفة حتى يحق عليه العقاب، فسبحانه وتعالى ذكر في محكم آياته أن إبليس كان من الجن وأمره الله بالسجود مع أمره الأصلي للملائكة بالسجود فلم يفعل، فقال تعالى" وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ" (الكهف 50)

والأمر الخاص له بالسجود مفهوم ضمناً في قوله تعالى "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك" (الأعراف 12) أي أن هناك أمر خاصاً به بعيداً عن الملائكة ولم يطعه إبليس، ومع علمه سبحانه وتعالى اليقيني بسبب عدم سجوده قام بسؤاله ليحق عليه العقاب، وعندما أجاب في ذات الآية "قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين" حق عليه العقاب وقال سبحانه "قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِين" (13) وهكذا أوضح الله سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى دستوراً واضحاً لإمكان العقاب ضرورة أن يسبقه مواجهة المتهم بالاتهام.

الضمانات الجوهرية
وقد استقرت أحكام القضاء الباتة على هذا الأمر، وانتهت إلى أنه من الضمانات الجوهرية التي حرص الشارع على مراعاتها في التحقيق الإداري مبدأ المواجهة وذلك بإيقاف العامل على حقيقة التهمة المسندة إليه وإحاطته علماً وبمختلف الأدلة التي تشير إلى إرتكابه المخالفة حتى يستطيع أن يدلي بأوجه دفاعه وأنه يلزم حتى تؤدي مواجهة العامل بالتهمة غايتها كضمانة أساسية للعامل أن تتم على وجه يستشعر منه العامل أن الإدارة بسبيل مؤاخذته إذا ما ترجحت لديها إدانته حتى يكون على بينة من خطورة موقفه فينشط للدفاع عن نفسه، ولا يغني عن هذه المواجهة مجرد القول بأن المخالفة ثابتة ثبوتاً مادياً لا شبهة فيه ذلك أن الحكم على ثبوت المخالفة أو انتفاءها مرده إلى ما يسفر عنه التحقيق الذي يعتبر توجيه التهمة وسؤال المخالف عنها وتحقيق دفاعه في شأنها أحد عناصره الجوهرية.. وللحديث بقية
الجريدة الرسمية