رئيس التحرير
عصام كامل

قصة الناس والبطاطس.. وقود الفقراء ولذة الأغنياء

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

سواء أحببتها مقلية أو اعتدت على أكلها مسلوقة أو كنت من هواة الأكل الصحي وخبزتها في الفرن، في كل الأحوال تبقى البطاطس واحدة من الأشياء التي اتفق عليها ومعها الجميع في هذا العالم الذي يعج بالخلافات وتحتدم فيه خصومات الفرقاء.


بين كل طبقات البشر اعتبرت البطاطس هي الأكلة التي يرغبها الغني قبل الفقير، وعليها قامت صناعات ضخمة جعلتنا لا نستغنى عن كيس رقائق البطاطس المقرمشة، ورغم تصنيفها مع عائلة الخضر لكنها احتلت المرتبة الرابعة كأكثر الأغذية التي تستهلك عالميا بعد الثلاثي المسئول عن سد جوع البشرية القمح والذرة والأرز، ورغم أن البطاطس تلعب الدور نفسه في مد الجسم بالكربوهيدرات والسكريات وتعطي الإحساس بالشبع لكن نظرة الناس المختلفة للبطاطس جعلتها طعاما طيعا يمكن أن يتحول لطبق يساوي مئات الجنيهات في بعض الأماكن أو ساندوتش ثمنه أقل من ربع دولار في مطعم شعبي.

بعد اكتشاف الرحالة الأوروبيين للبطاطس في سهول أمريكا الجنوبية وهي الموطن الأصلي لهذه الدرنات العجيبة، بدأ اعتماد البشر على البطاطس يزيد بشكل يفوق المحاصيل الأساسية كالقمح والذرة، لدرجة أن مجاعة كبيرة ضربت الأراضي الأيرلندية بين عامي 1845 و1846 بعد أن أتلف مرض اللفحة المتأخرة محصول البطاطس في عموم البلاد ومات قرابة مليون شخص من الجوع، وأُجبر مليون آخرين على الهجرة هربًا من الموت.

ربما لا يدرك الناس الأهمية التي تحتلها البطاطس في حياتهم اليومية باعتبارها مصدر الكثيرين للإحساس بالشبع والامتلاء بالطاقة، فبهذا المنطق ساعدت البطاطس في دفع عجلة الإنتاج في أوروبا إلى الأمام بعد أن دخلت إسبانيا لأول مرة في القرن الـ16 كأحد الاكتشافات العجيبة بالأمريكتين.

جون ريدر الكاتب الإنجليزي الذي أنتج عددا من المؤلفات التي تهتم بعلاقة الإنسان بالموارد الطبيعية منها كتابه الإنسان والأرض، قال في حوار مع موقع «فاو» على هامش الاحتفال بالعام الدولي للبطاطس سنة 2008: «إنه ذهل من الدور الاقتصادي الذي لعبته البطاطس بعد أن تحول السكان في مجتمعات محلية زراعية مغلقة ومكتفية ذاتيا إلى مجتمعات باتت التجارة والنشاط الاقتصادي هما الوسائل الأساسية لبقائه».

وأضاف ريدر: «نهضت البطاطس بسلسلة من الدول الإمبريالية بجبال الأنديز وظهر تأثيرها على أوروبا في القرن الـ16، فمن وجهة نظري لم يقع حدث بهذه الضخامة من قبل في أي مكان، فبعد الاعتماد على الحبوب لآلاف السنين أصبح لدى أوروبا محصول تكميلي ملائم للتربة والمناخ وينتج كربوهيدرات تزيد بأربع مرات من وحدة الأرض والعمل عن محاصيل الحبوب، ونمت أعداد السكان على نحو سريع في كل الأماكن التي دخلت زراعة البطاطس إليها وهو ما وفر قوة عاملة كبيرة، وهكذا قدمت البطاطس الوقود اللازم للثورة الصناعية لأوروبا والعالم.

وبشكل عام يدين البشر لسكان الأنديز القدامى بفضل اكتشاف وترويض أصناف البطاطس، والتي كانت سلسلة لإنتاج الأصناف التي نعرفها اليوم، فالقصة بدأت منذ 8000 عام على ضفاف بحيرة تيتيكاكا التي تقع على ارتفاع 3800 متر فوق سطح البحر في سلسلة جبال الأنديز على الحدود بين بوليفيا وبيرو؛ حيث تم ترويض البطاطس من البرية لأول مرة على يد البشر الموجودين في تلك المنطقة؛ وهم مجموعات معتمدة على الصيد والجمع من الأحراش؛ كوسيلة للحصول على الطعام، وبسبب البطاطس نشأت دول وإمبراطوريات ساعدتها البطاطس على الاستمرار وكانت آخرها دولة حضارة الإنكا التي امتدت من كولومبيا إلى الأرجنتين قبل أن تنتهي على يد الإسبان عام 1532، لتبدأ البطاطس رحلة جديدة إلى العالم كله.

واليوم يوجد على امتداد سلاسل جبال الأنديز قرابة 5000 صنف من البطاطس يزرع من قبل السكان المحليين.

يحمل السكان المحليون في بيرو مسئولية الحفاظ على الأصناف الأصلية للبطاطس التي نمت في الأنديز، وفي سبيل ذلك تكون جماعة حماة البطاطس التي تضم عددا من المزارعين المحليين في بيرو اتخذوا مزرعة ضخمة مساحتها 12 ألف هكتار لزراعة قرابة 1000 صنف من البطاطس، وفق ما يقول لينو ماماني المصنف كأحد حماة البطاطس في بيرو أو «بابا اراريو» بلغة كويشاو المحلية.

ويقول لينو: إنهم أعادوا زراعة عدد من الأصناف التي عادت لموطنها الأصلي في بيرو بالجبال حتى تتعلم تلك الأصناف كيف تتواءم مع نفسها في ظل العوامل من حولها، ويعتمدون في ذلك على قوة الطبيعة الأم التي تعلم البطاطس كيف تروض نفسها، وتجعلها تنتج المزيد من الغلال، وهذا من خلال إسعاد الطبيعة الأم بزراعة أكبر عدد من أصناف البطاطس، ويرفض حماة البطاطس في بيرو زراعة الأصناف الحديثة بداعي أنها تحتاج حتى تنمو إلى «تسميم» الطبيعة الأم بالأسمدة والمبيدات.

في مناطق نشأتها أعلى جبال الأنديز ببيرو، قرر العالم أن يحافظ على البطاطس من مخاطر التدهور والاختفاء نتيجة الأمراض والعوامل المناخية المتغيرة، فأنشأ عدد من الجهات المانحة المعنية بالغذاء والزراعة المركز الدولي للبطاطس بالعاصمة البيروفية ليما عام 1971؛ ليمارس دورا بحثيا في تعزيز الأفكار وإنتاج الأبحاث التي تساهم في الحفاظ على البطاطس وتطويرها ونشرها كمصدر غذاء أساسي خاصة في الدول النامية.

وصل مدى الأبحاث التي أجريت على البطاطس إلى التفكير في محاكاة زراعتها على تربة كوكب المريخ في ظل محاولات الإنسان إلى استكشاف مناطق للعيش المستقبلي على الكوكب الأحمر، فأجرى المركز الدولي للبطاطس عام 2016 تجربة لزراعة البطاطس في بيت زجاجي يوفر ظروف مناخية قاسية كتلك التي توجد على المريخ، وتكوين تربة مشابهة أيضًا جلبت من صحراء بمامباس دى لاجويا في جنوب بيرو، وهي المنطقة التي يظن العلماء أنها تشبه إلى حد كبير التربة على المريخ، ونجحت التجربة المبدئية في إنتاج درنات البطاطس من الظروف الجوية القاسية، وفي تربة غير اعتيادية لنمو البطاطس؛ وذلك نتيجة لعمليات التحسين والتهجين التي يباشرها المركز بشكل دائم.

حتى عام 2016 وصل الإنتاج العالمي من البطاطس إلى 377 مليون طن منها قرابة 100 طن تنتجها الصين وحدها باعتبارها المنتج والمصدر الأكبر للبطاطس في العالم، ويقول الدكتور محمد مصطفى الباحث في قسم بحوث البطاطس بمركز البحوث الزراعية: «إن الصين تحولت إلى عملاق في زراعة البطاطس بعد أن اعتمدت على تكنولوجيا زراعة الأنسجة لإنتاج تقاوي البطاطس وتوفيرها محليا في كل الأوقات الملائمة لزراعتها خلال العام، وهو ما مكنها من احتلال قمة هرم زراعة وتصدير البطاطس في العالم». 

ويشير مصطفى إلى أن إنتاج التقاوي من خلال عمليات زراعة الأنسجة في المعامل، هو النمط المتبع في أغلب الدول للاكتفاء من التقاوي وهو النمط الذي بدأنا اتباعه في مصر بعد الأزمة التي ألمت بسوق البطاطس العام الماضي 2018 بسبب ضعف الإنتاجية خلال عروة الخريف، وما تبعه من احتكار بعض التجار للسلعة فارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وهدد ذلك أن يحصل المستهلك بسهولة على واحدة من أهم وأرخص السلع الغذائية الأساسية في العالم، ومنذ ذلك الحين ونحن نعمل على مراحل إنتاج تقاوي البطاطس ومن المنتظر أن ننتج أول دفعة للسوق خلال 3 سنوات فقط.

وتحتل البطاطس في مصر مكانة كبيرة لا تقل عن مكانتها في بقية دول العالم، رغم أن مقارنة استهلاك المواطن الروسي والأوروبي للبطاطس وصل إلى 150 كيلو في العام مقابل 22 كيلو للمواطن المصري، وهو فارق كبير يدلل على أهمية البطاطس للمواطنين في الدول الأكثر تقدما ويشير إلى ضرورة الاهتمام بزراعتها في مصر بشكل أكبر.

ومن جانبه يقول الدكتور محمد على فهيم الخبير الزراعي وصاحب الخبرة الطويلة في زراعة البطاطس، إنها محصول قومي بلا منازع وإن مساحات زراعته في مصر تتخطى 400 ألف فدان تنتج نحو 5 ملايين طن قيمتها الاقتصادية 20 مليار جنيه.

ولفت إلى أنت البطاطس يساهم في الناتج القومي الزراعي بنسبة 5% ويستوعب طوال العام قراة 25 مليون عامل يومية ويوفر مليون فرصة عمل دائمة، ويضخ عملة صعبة بأكثر من 500 مليون دولار بما يعادل أكثر من 20% من قيمة صادراتنا الزراعية ونحو 25% من حجم الصادرات الزراعية

أما عن قيمة البطاطس للفلاحين فيقول فهيم إنها تعتبر "زرعة الموسم" التي يعقد عليها المزارع الآمال طوال العام أملا في الربح، وأن قرار زراعة البطاطس يتطلب من المزارع التخطيط طوال العام لتجهيز ثمن التقاوي وخدمة التربة، وأن من اعتاد زراعة البطاطس لا يمكن أن يتراجع عنها.
الجريدة الرسمية