رئيس التحرير
عصام كامل

ممنوعة من الحب


مات والدى وأنا صغيرة.. فلم أتذوق طعما لكلمة (أبى)، رقة أمى وحنيتها كانا ملاذي في سنوات لهفتى لحضن الأب.. كنت الابنة الوحيدة ولى من الإخوة الذكور ثلاثة كلهم كانوا بالنسبة لي سندي.. كبرنا سويا ونفحات قصة حب أمي وأبي تظلل بيتنا بمحبة ربانية نادرا ما نجدها في بيوت من حولنا وهم الذين يملكون ما نفتقده..


رغم مشاعرى الفياضة التي ورثتها من أمى وطاقتى غير المحدودة التي كانت نسخة من روح أبى إلا أنني لم أجرؤ يوما على ترك قلبى عالقا في سحاب الدنيا ونعيم المحبة وعذوبة الأشواق.. كلمات أمي ما زالت تخترق أذنى وتستقر في أعماقي.. إن الدنيا غدارة ولا ينبغى أن أستأمن إلا إخوتى على أي شىء في حياتى.. فمن يستحق هذا القلب إلا شخص لم يولد بعد..

دخلت الجامعة وقد دربتني أمى على أن أكون صماء بكماء عمياء.. أنفصل عن عالم الرجال وأعيش راهبة في محراب العشق.. تملأ نفسى مشاعر فياضة وينفطر قلبى لوعه بلا حبيب.. كنت أرى نفسى فتاة مميزة وأنظر لمن حولى من عل.. فقصص الفراق والبكاء والأسى التي تعيشها صديقاتى ورفقاء دراستى هي أشبه بالخيال العلمى الذي لا أراه سوى في الأفلام..

حتى جاء يوم قررت أو ربما وقعت أسيرة أحساس لم أجد له تفسير.. إلا ما قالته لي صديقتى "نوال".. إنه الحب يا عزيزتى.. فاجأتنى عبارة "نوال" كأننى من كوكب آخر.. كوكب لا يعرف في محتويات عقله معنى لهذه الكلمة.. ضحكات "نوال" هزتنى وجعلتنى أعيد تفكيرى في الحياة مرة أخرى..

كيف أكون نتاج قصة حب رائعة وكبيرة كما أعرف.. وممنوعة من الحب؟ أليس هذا أمرا غريبا؟!

لأول مرة تستوقفنى حقيقة تاهت في تفاصيل حياتى.. أسئلة كثيرة تجمعت واختمرت داخلى لملمتها مرة واحدة وطرحتها بين يدى أمى، لم أخش ألمها وذكرياتها الشجنة.. فالوقت قد حان لكى أعرف ما يجب أن أعرفه..

سألتها بلطف وتحدى لماذا أنا قلبى مغلقا؟.. متى ستفتحين له الباب؟

لم أعطها فرصة للهروب من التفاصيل كعادتها.. داهمتها بسؤال لم يخطر ببالها.. هل حقا كنتِ تحبين أبى؟! كيف من يحب لا يريد غيره أن يستمتع ويجرب الحب.

(الحب قهر وضعف وفراق) قالتها أمها بتوتر وصراخ.. أمسكت بذراعى تهزنى لن أسمح لكِ أن تحبى.. أن تتعذبى مثلى، وبعدها يتركك للفراغ وحيدة ويرحل.. إذا أحببت ستموتين.. أو يموت من تحبينه!

كلماتها صدمتنى ودموعها جعلتنى أشفق عليها، فضممتها إلى صدرى، وأحسست بضربات قلبها تتسارع كعجلات قطار مسرع.. هدأت من توترها وانزعاجها ووعدتها بأن أبتعد عن وجع القلوب كما وصفته أمى.

منذ ذلك اليوم تغيرت حياتى وحياة أمى.. فقد ذاب جبل الجليد الذي أقامته سنوات حول آلامها وعذابها بسبب وفاة أبى، لكنها داومت في كل صباح أن تحكي لى قصة حب انتهت بموت أحد الحبيبين، وكأن الحب هو ملاك الموت هادم اللذات ومفرق الجماعات.

وترتسم على وجهها ابتسامة بلهاء كلما تذكرت قصة.. فخالتك "صفية" زوجها مات بعد خمس سنوات من زواجهما، وعمتك "ليلى" توفيت وتركت بنتين وولدا وما زال زوجها يذرف دما على فراقها ولم يتزوج.

وابنة خالك التي كادت أن تنتحر حتى تتزوج ممن تحب وبعد زواجها منه ماتا سويا في حادث سيارة، وتركا بنتا جميلة لم تكمل عامها الثانى..

لم تهدأ أمى في إصرار لا يصيبه الملل.. في حين كل الزيجات التي تمت بلا حب أو كما يطلق عليها زواج صالونات فهم ينعمون بصحة وعافية وما ينغص حياتهم أمور عادية تحدث في أي بيت.. لا حاولت مجادلتها بالحجة والدليل.. فالموت والحياة بأمر الله وليس للحب وقصصها دخل في كتابة نهايات المحبين.

فلم تسمعني!

رغم أننى أشبه أمى في كثير من ملامحها وصفاتها إلا أننى لم أستسلم لهواجسها، وقررت أن أعيش متمردة بقلب تواق للحب ونعيمه.. لم أخبرها يوما أننى أحببت أكثر من مرة وجرحت والتأمت جروحى.. وعندما قررت الزواج تزوجت ممن أحببت.. أخفيت قصة حبى الكبيرة بزوجى حتى لا تنهار وأفقدها، ورسمت خطتى مع زوج خالتى ليرشح حبيبى ليكون زوجا لى..

وطوال سنوات زواجى الخمس عشرة حتى وفاة أمى لم أبح لها بسرى.. أذكر أنها وهى على فراش الموت ابتسمت ابتسامتها الأخيرة وقالت لي: (أرأيت يا ابنتى لو كنتِ تزوجتِ ممن تحبين مثلى كنتِ ستفقدينه وتحرمين منه.. ومن سعادتك التي أراها في عينيك كل يوم).. أمسكت يديها وقبلتها وهمست في أذنها لديك كل الحق فالحب والسعادة لا يجتمعان.. هكذا الدنيا.
الجريدة الرسمية