صوت المطر.. ورائحته!
للمطر صوت، وللمطر رائحة، وكلاهما يستدعيان صورا من الذكريات، لهما قدرة مع هطول المطرة على دفع الذكريات دفعا إلى شاشات البصر. المطر بصر وصور.. للمطر في المنصورة خاصية فريدة. مطر القاهرة قليل ومتباعد. مطر المنصورة غزير متواصل متقارب مدد الهطول.
كثيرون منا يفرحون بنزول المطر، فرحتى تكون غالبا كفرحة الطفل، ربما لأن ذلك الصبي الذي يمشي في طرقات المنصورة تحت مطر لا يزال حيا.. مطر قد حوّل التراب الي روبة.. الروبة تعبير لا يعرفه الإ أبناء الأقاليم مثلي، أما في الأرياف فإن المطر مع التراب يصير إلى طين كثيف ثقيل..
مع البرد القارس، يهاجم نغاشيش العظام بلا رادع مهما تحصنت بالملابس الثقيلة، تطفو على سطح الذاكرة صور بعيدة قديمة محببة، يختلط المشهد الغيمي بأصوات من رحلوا، أعز من رحلوا، صوت الأم، صوت الوالد، وبينهما صوت وابور الجاز..
الوابور والع، رأسه الدائرية، الكوشة، هى تاج تخرج من حواشيه ألسنة النار زرقاء وصفراء، الزرقاء دليل عمران الوابور بالجاز، وحين ينفد الجاز قليلا تنسحب النار الزرقاء لتذوي وتصفر.. ويشحر الوابور..
الوابور شحر أي نفد وقوده، وتعميره واجب وأمن قومي، عائلي، لأن البيت الذي لا صوت للوابور فيه في ليالي الشتاء، هو بيت بارد، بلا دفء..
نتحلق. كنا نتحلق حوّله، أمي تقشر حبات البرتقال، أو تغلي براد الشاي، نعصر قشر البرتقال علي الكوشه فتتطاير صواريخ عائلية الصنع، يختلط عصير قشر البرتقال بالنار والرائحة فى ذاكرة لا تشحب ولا تزول.. وأحيانا نشوي بصلة صغيرة علي الوابور، أما الشاي الساخن فمذاق آخر حين تغمره بحبات من الفول السوداني..
تلك ليالٍ حلوة.. ذلك كان دفء العيلة، ثم ينفض الجميع عن الوابور، كل ذهب إلى فراشه وأبقى أنا والوابور راقد بين ساقي ليبعث فيهما الدفء. البيجاما الكستور وحدها لا تعمل كفاية لبث الدفء في الأطراف.. برد المنصورة غير أي برد..
يبقى الوابور بين رجلى كأنما أحتضنه، أستذكر دروسي عليه، وأفرد راحتي فوق نيران الكوشه الواهنة، أستدفئ، واحفظ الشعر أو أقرأ التاريخ.. ثم يقع الفاصل المحبب، إنه صوت زخات المطر، رشات المطرة تنهمر، يأتيك الصوت من وراء الشيش، قطرات المطر وموجاته تضرب الشباك، تلطم النوافذ..
عندئذ أهرول إلى فتح النافذة قليلا فإذا بأمي رحمها الله تنبهنى أنى أرتكب جريمة هي المرض فتصرخ بالتعبير المنصوري: “ادخل يا محمد حتستهوى. وتستهوى يعني يصيبك البرد، والزكام والأنفلونزا.. ونزلة شعبية”..
صرخة لا يمكن نسيانها، لكن شغفي بصوت المطر ورائحة الهواء المشبع به يجعلني مهيأ لأية تضحية، والظاهر أن تلك المجازفة منحتني مناعة مضاعفة، صدت عني أمطارا متوحشة، وصقيعا جامحا، في واشنطن وفي فرجينيا، حين عملت في صوت أمريكا مذيعا ومترجما..
في برج 2000، في حي الإسكندرية بولاية فرجينيا، في الطابع العاشر، والجدران زجاجية، تصبح أنت والمطر والبرق والرعد موجة واحدة طبيعية. مطر مرعب. برق ساطع، رعد مزلزل مخيف. عندئذ يتضاعف الحنين الجارف إلى صوت الوابور، إلى رائحة البرتقال المعصورة قطراته على وش النار، إلى عطر الروبة في شوارع حي عزبة عقل حيث نشأت وأحببت..
وأمس، وجدتني مجذوبا إلى الشرفة، والمطر ينهمر، والهواء البارد يخترق مسام العظام اختراقا، وتطلعت إلى السماء تصفو مع المطر، ولما دخلت خوف المرض، فتلك ليست أيام الصبا والتحدي، تمنيت أن أجد الوابور.. لا وابور ولا أم ولا والد ولا صوت الرتيب الجميل.. بقي إخوتي وأولادهم.. أحبهم.
جاهدت نفسي جهاد المنقب عن اذهب في رمال الصحارى، فاستحييت وابور أمي.. وليالي الشتاء الطويلة.. ظهر الوابور شاحبا شحوب الذاكرة.. وكما نفد الجاز فيه.. ينفد فيما.. يبدو جاز الذاكرة
حنين جارف عشته.. ونقلته إليكم.
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا
