محاكمة "الست"
حين تُستدعى أيقونة بحجم أم كلثوم إلى الشاشة، يصبح الحديث عن فيلم “الست” أكثر من مجرد نقد درامي؛ إنه اختبار للوعي الوطني والثقافي. فيلم “الست” لم يخطئ لأنه اقترب من كوكب الشرق، بل لأنه اقترب منها بطريقة انتقائية، اختزلت التاريخ في لحظات، وقدمته باعتباره مادة للجدل والصدمة، لا للتأمل والوعي.
النتيجة؟ ساعتان ونصف من التشويه الرمزي، وتحويل الأسطورة إلى شخصية محدودة الأفق، انتهازية، حشَّاشة، ضيقة، تغني للسكارى وتدير الناس كأرقام في دفتر حسابات.
كل صفة سلبية يمكن تصورها وُصفت بها أم كلثوم، كأن مصر والعالم العربي يمتلك فائضًا من أيقوناته ورموزه، يمكن التضحية بواحدة منها باسم الجرأة أو الدراما الجريئة. هنا، يتوقف النقد الفني عند حد المسئولية الوطنية: هل يجوز هدم تاريخ بصوت واحد، وتجريد ذاكرة شعب من أهم رموزه؟
أم كلثوم لم تكن مجرد مطربة، بل مؤسسة ثقافية وطنية. وصفها نجيب محفوظ، أديب نوبل، في جملة قصيرة قائلًا: “إنها نعمة الدنيا”، جملة تختصر قرنًا من التأثير الفني والثقافي والسياسي.
أما الباحثة الأمريكية فرجينيا دانييلسون، المتخصصة في الموسيقى، فخصصت كتابًا بعنوان “صوت مصر.. أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين”، وضعت فيه أم كلثوم في مصاف عالمي نادر، معتبرة أنها جمعت بين براعة جوان ساذرلاند وإيلا فيتزجيرالد في الغناء، وشخصية إليانور روزفلت في المجال العام، وتأثير ألفيس بريسلي على الجمهور. هذه تقييمات عالمية مستقلة، بعيدًا عن الانحياز المحلي، تؤكد أن ما حدث في الفيلم بعيد عن الحقيقة.
“صوتها، من طبقة الكونترالتو، عميق، نادر، يمتد بثبات إلى منطقة الميزو سوبرانو، في مساحة صوتية تضم 16 نغمة موسيقية كاملة. هذا ليس مجرد صوت جميل، بل قدرة فنية على تحويل الكلمات واللحن إلى تجربة جماعية”. لكن الفيلم اختزل هذا الصوت الأسطوري في مشاهد ضيق الأفق والانتهازية، ليخفي القوة والحضور، ويصبح العمل دراما عن شخصية صغيرة بدلًا من أن يكون عن ظاهرة كبرى.
النقد الأكبر للفيلم يكمن في اختزال الدور الوطني والسياسي لأم كلثوم. فبعد الإطاحة بالملك فاروق، تم إقصاؤها عن نقابة الموسيقيين، ومُنعت أغانيها من الإذاعة. لم تتخاذل، ولم تتنازل، بل اعتزلت في منزلها.
ثم جاء عبد الناصر وأوقف القرارات، وأرسل وفدًا للاعتذار، لتعود إلى الساحة الوطنية وتغني “والله زمان يا سلاحي” التي أصبحت النشيد الوطني لمصر لمدة عقدين. كل هذا غاب عن الفيلم، وحلّت مكانه مشاهد عن السيطرة والحسابات!
أم كلثوم لم تكن مجرد فنانة تبحث عن النجومية والمال فقط كما صورها الفيلم. فبعد هزيمة 1967، لم تنتظر أن يُذكَر اسمها أو يُسجل تاريخها. خرجت إلى العواصم العربية، غنت لمصر، وجمعت نحو مليوني دولار لصالح الدولة والمجهود الحربي، لتقف إلى جانب وطن منكسر، فكانت الفنانة والمواطنة والرمز الوطني في آن واحد. هذه الحقائق لا تظهر في فيلم ركز على الجدل والصدمة، ونسي البُعد الإنساني والسياسي والاجتماعي لصوت الوطن.
على الصعيد العالمي، أم كلثوم هي المطربة العربية الوحيدة التي دخلت قائمة أعظم 200 مطرب في التاريخ وفق مجلة “رولينغ ستون” الأمريكية، محتلة المركز 61، واعتبرت “روح العالم العربي” بلا نظير في الغرب.
وفي فرنسا، اختارت صحيفة “لوموند” أغنيتها “الأطلال” ضمن أفضل 100 عمل فني وأدبي في القرن العشرين. هذا المستوى العالمي لا يمكن تجاهله لمجرد أن السيناريو قرر أن يرى غير ذلك، ويركز على عيوب لا يمكن إثباتها ولا يرى غيرها.
الفيلم يضع المشاهد أمام أم كلثوم كما لو كانت شخصية عابرة، محدودة التطلعات، تسعى للتحكم في محيطها، بينما الحقيقة أنها ظاهرة متكاملة: صوت قوي، حضور مدهش، تأثير بلا حدود، وأداء سياسي واجتماعي لا مثيل له. هو إذن فيلم عن شخصية لا تمثل سوى نصف الحقيقة، بينما الحقيقة الكاملة أكثر تعقيدًا وجمالًا، وأكثر درامية من أي سيناريو يمكن كتابته.
مسئولية صناع العمل كبيرة هنا. منى زكي ومروان حامد ليسا منفذين بلا وعي. الورق يُقرأ، الرؤية تُناقش، والقرار يُتخذ. حين يأتي نص يُعيد تشكيل رمز بحجم أم كلثوم بهذه الطريقة، الصمت ليس حيادًا، بل مشاركة في التشويه. أن تُقدم أيقونة بهذه القسوة، وأن تُتجاهل محطات حياتها الحقيقية، هو اختيار فني وأخلاقي معًا.
السؤال الذي لا بد من طرحه بعد هذا الفيلم: لماذا يُعاد تشكيل رموز مصر بهذه الطريقة؟ ولماذا يتم هدم الذاكرة الوطنية باسم الجرأة؟ هل الفن بحاجة إلى الصدمة ليثير الانتباه، أم أن دوره الحقيقي تقديم الرمز بمعناه الكامل، بما في ذلك معاناته وإنجازاته وأثره الاجتماعي والسياسي؟
قد يثير فيلم “الست” جدلًا مؤقتًا، وقد يحقق بعض الضجة لحظة عرضه، لكنه لن يعيش طويلًا في الوجدان العام. أما أم كلثوم، فهي خارج الشاشة، خارج الحسابات المؤقتة، وستظل الصوت الذي يعلو بعد أن تخفت كل الأصوات، والرمز الذي لا يمكن اختزاله أو تشويه قيمته، وذاكرة الأمة التي لا تمحى.
الفن ليس معفى من المحاسبة، بل مطالب بالوعي حين يتعامل مع الرموز. والجرأة الحقيقية ليست في التشويه، بل في مواجهة الحقيقة كاملة، في تقديم الصوت والأسطورة والرحلة الإنسانية في آن واحد. وكل فيلم يختار الطريق الآخر، لا يكون أكثر من ضجيج عابر، بينما تبقى الأسطورة، بلا منافس، بلا نظير، في قلب الأمة وذاكرة التاريخ.
وهكذا، سيذهب فيلم “الست”، كما ذهبت أفلام كثيرة حاولت اللعب بالماضي والتلاعب بالتاريخ، وتضخيم العيوب، بينما تبقى أم كلثوم.. صوتًا لا يُختزل، ورمزًا لا يُهان، وأيقونة لا يمكن لأي سيناريو مهما ادعى الجرأة أن يطاولها.
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا

