رئيس التحرير
عصام كامل

القمح يا ريس

لماذا لم تستطع مصر الاكتفاء ذاتيا من القمح حتى الآن، وإلى متى سنظل نقبع على قمة قائمة الدول المستوردة على الرغم من امتلاكنا لكافة المقومات التى تؤهلنا لسد حاجتنا، والتحكم فى قرارنا القومى، وتوفير مليارات الدولارات ننفقها سنويا على استيراد تلك السلعة الاستراتيجية؟

فمنذ سنوات وكل الأحاديث فى الكواليس تتحدث عن ضغوط خارجية، تدعمها مافيا داخلية من أصحاب النفوذ من مستوردى القمح، تقف بشدة أمام كل الخطوات التى أقدمت عليها مصر لتحقيق هذا الغرض، وعلى الرغم من إننى لا أمتلك معلومات يقينية من الممكن أن استند عليها لإلقاء المسئولية على جهة أو طرف بعينه فى تلك القضية الحيوية، التى جعلنا أكثر دول العالم عرضة للمساومة على قوتنا وقرارنا القومى، إلا إننى أرى فى هذا التوقيت تحديدا فرصة قد لا تعوض لتحقيق تلك الأمنية القومية، لسببين غاية فى الأهمية.

أولهما اننا بالفعل نمتلك كل المقومات التى تؤهلنا لذلك من سلالات وأرض ومياه وايدى عاملة وثانيهما النظام الذى يحكم مصر الآن، والذى عهدنا فيه أنه لا يخشى فى النهوض بمصر لومة لائم.

 فعلى الرغم من حالة الجدل التى اثارها حديث الرئيس السيسى عن اتجاه الدولة لرفع الدعم بشكل جزئى عن رغيف الخبز، والمبررات المنطقية التى طرحها كل من أيد أو عارض الخطوة، إلا انه قد غاب عن الجميع تجربة غاية فى الخطورة أهملها نظام مبارك كان من الممكن أن تغير وجه الحياة فى مصر، وتؤمن قرارنا القومى.

 

ففى عام 1989 انتهى رائد علم الهندسة الوراثية العالم المصرى الراحل الدكتور أحمد مستجير مع فريق من علماء كلية الزراعة بجامعة القاهرة، من دراسة استمرت 15 عاما، نجحوا خلالها من استنباط سلالات جديدة من القمح والأرز والذرة تتحمل درجات عالية من الملوحة والجفاف، ويمكن زراعتها فى الأراضى الصحراوية، وريها بمياه البحر المالحة بشكل مباشر.

 الاكتفاء ذاتيا من القمح

 

الغريب، أنه بدلا من أن يتبنى النظام فى ذلك الوقت الدراسة ويبدأ مشروعا قوميا يحسب له ولمصر، أدار الجميع ظهورهم لفريق العلماء، ليتكرر ذات السيناريو المؤسف الذى تكرر مع آلآف النوابغ، حيث تلقفت الهند الدراسة باهتمام شديد، ونجحت من خلالها فى الاكتفاء ذاتيا من القمح، وتغطية احتياجات ما يقترب من المليارى نسمة، من خلال زراعة الصحراء، ورى المحصول بمياه البحر المالحة، والتحول من دولة مستوردة إلى دولة مصدرة للقمح فى عام 2004.

 

وقد بنى الدكتور أحمد مستجير وفريقه البحثى دراستهم على عملية تهجين بين "نبات الغاب" الذى ينمو فى المياه المالحة، وخلايا نباتات الأرز والقمح والذرة من خلال دراسات فنية نجحت بعد كفاح فى الخروج ب 4 سلالات من القمح، و12 سلالة من الأرز، و8 سلالات من الذروة، تنمو جميعها تحت ظروف الجفاف والملوحة المرتفعة والحرارة العالية.

 

ولم يكتف الدكتور أحمد مستجير وفريق العلماء المصرى بما انتهوا إليه من نتائج، بل قاموا باختبار كل تلك السلالات لعدة أجيال فى أراضى صحراوية مختلفة وتحت ظروف الجفاف، ثم اعقبوها بتحليلات وراثية وكميائية ودراسات تشريحية، انتهت إلى زراعة عشرات الأفدنة بالسلالات المكتشفة، انتجت أضعاف الكميات المتعارف عليها فى الزراعات والأراضى العاديه.

توفير مياه الري

ولعل أعجب ما فى دراسة الدكتور أحمد مستجير التى مازالت تنتظر من يحنو عليها أنها أثبتت أيضا إمكانية زراعة السلالات الجديدة بإستخدام مياه الصرف الصحى، مع الاحتفاظ بكامل قيمتها الغذائية العالية من بروتينات وأحماض أمينية وسكريات وكافة العناصر الغذائية الأخرى.

 

 بل والأكثر من ذلك، أنه أثبتت الدراسات أيضا إمكانية زراعة تلك السلالات تحت ظروف الجفاف، والرى الضئل للغاية، وبمعدلات توفير ما يزيد 65% من المياه المستخدمة في التربة العادية، وهو ما يتناسب واستراتيجية تقنيين المياه التى تتبعها مصر فى الوقت الحالى.

يقينى أن الرئيس السيسي فى مصر الآن يستطيع أن يتبنى ما إنتهى إليه الدكتور أحمد مستجير ورفاقه، والسير بمصر نحو مشروع قومى ينتهى بنا إلى الاكتفاء ذاتيا من القمح والأرز والذرة وامتلاك قوتنا، والتحكم فى قرارنا القومى، وزراعة ملايين الأفدنة بالصحارى المهملة، واستغلال مياه البحر المالحة، وتحقيق طفرات زراعية وحيوانية غير مسبوقة، وتوفير سلع إستراتيجية هامة لفقراء مصر بأسعار زهيدة.. اتمنى.

الجريدة الرسمية