رئيس التحرير
عصام كامل

ايما خليل تكتب.. "ميدو زهير" حراً حتي الموت

ايما خليل
ايما خليل

كان يومًا من الأيام الأخيرة غامضة المستقبل، بعد أن راهن الجميع علي الانتظار.. وبصرف النظر إلا أنه كان يوماً مشمسًا جميلًا.. يليق حقاً بجلسة الأصدقاء تلك، (وظلً السؤال الذي كنت افكر به دوماً يتردد.. من أنا في تلك الساعة؟!)..

كنت كالآخرين أترنح بين التفاؤل وسوء الظن.. بين الاغتراب وحيرة الانتماء ..حتي سمعت تلك الكلمات صدفة تشدوفي تردد بندولي مربك : "صاحبي ياعشرة سنين..تفتكر جوايا مين.. جوايا ضلمة ولا شمسة.. محتاج لرجة ولا لمسة.. جوايا واحد ولاخمسة.. وإن كانوا خمسة..يبقوا مين؟

صاحبي ياعشرة سنين..تفتكر جوايا مين.. وإن كنت من جوايا فاضي.. احط إنساني المريض.. ولا فرد حمام يبيض، ولا شيطاني اللعين.. صاحبي ياعشرة سنين.. تحب أقول جوايا مين.. جوايا خوف وناس بتدعي وناس بترقص عالصاجات.. جوايا بيت ودير ومدنة وضيق وغربة وانبساط..

صاحبي ياعشرة سنين.. تحب أقول جوايا مين.. جوايا حيرة وخوف وشك.. جوايا واحد كان عارفني..فضلت احاربه لما أهج ومن ساعتها بقيت سبيل.."

سمعتها كثيرًا بامتنان حقيقي.. دون انتباه في المرات الأولى لوقع المباغتة، ودون انتباه لجرأتي في كسر ذلك الحاجز المصطنع.. والحقيقة أنني كنت دائمًا ما أرى سعادة ما وارتياحًا في عمق تلك الكلمات التي تستحضر كل مشاعر الدهشة والترفع..

 

 

مازلت أتذكر كل شيء من بعد تلك المرة.. كل حرف ثائر سمعته أو قرأته وكأنه اليوم ،وأيقنت انه لو لم يكن كتب لكان الكثير مما أشعر به ظل غير منطوق.. أحلام علي أرض خصبة مفعمة ومدعمة بكلماته، فقد كان يختصر أبواباً وطرقا للانتفاض.. وكم من باب مغلق يُفتح مع الأيام..وكم من نهاية تترك خلفها إما حلماً أو سؤالاً..

"ميدو زهير"لم يكن قيد تجربة الثورة الفنية فقط، بل كان يكتب عما يفجِّر لحظات بعينها من قبل حدوثها،كان يُحرِّض ويتنبأ بكل تلقائية،دون سبب أو رغبة في الوصول إلي أي شيء سوي الوصل إلا ذاته، فقط يعبِّرعن حاله وحال كثيرين من جيله داخل أغنية كل منها مثل حدوتة يختصرها ويصرِّخ خلالها بكل جرأة، وكأنه يهتف في مسيرة ستأتي بعد عدة سنوات: « مسيرة من فِعل وفاعل ومفعول ".. "اسأليني يا حبيبتي عَ اللي داير في البلاد، اللي فيها صادروا حلمي وباعوا صوتي في المزاد، اسأليني عن ولاد شوفتهم بعينيا دول، جربوا كل الحلول وبيفشلوا بالاجتهاد" فبينما كان الأندرجراوند ما هو إلا موجات تأتي كل فترة، تبدأ في الانتشاروالنجاح حتى تصل إلى الساحة التجارية، كان يزداد الحمل علي كتفي "زهير" وأمثاله أكثر، من أجل الحفاظ علي منتجهم برغم ما تطلبه هذه الساحة من تنازلات، فأحياناً يشكل الاقتراب منها تقليلا للإبداع الفني أو تقليصا لمساحة التجربة بشكل عام.. ولكن ثبات "زهير" كشاعر وكاتب كان نابعاً من قوة التعبيرعن إنسان مكتمل بنزعاته وبكائه وليس فقط ذكورياً ناقصاً.

 كانت دوماً حروفه مُحملة بجروح النفس وعذابات الفَلَس وسقطات الرعونة والحيرة وكسرات الروح.. كان مدوناً حقيقاًللمعاني المليئة بتداعيات الإغتراب والوحدة وروائح الشرب والتدخين النابع من خجل القهر، تاركاً منها ما تغني به من يشبهه ومنها ما لم يغنً ولكن جميعها كانت مليئة بالرقة الدفينة للتمويه علي إستقلالية وألم كاتبها..

"زهير" كان يفرش كلماته بسخاء حقيقي وأصيل وواسع برغم كل الملل والضيق والحيرة، كان يملك وعياً فطرياً صادقضد كل ما هو استعاري وزائف ومؤقت، مهيناً بأدائه لإبتزال الشعراء الآخرين وأصحاب الاداء الكهين المدعي السائد عند الكثيرين..

مات "زهير".. مات الشاب صاحب الخشونة الخاصة والمزاج غير الجائع، الذي كان يقدمه في أغانيه بمتعة عميقة وفريدة.. رحلً واعتقد أن رمزية وفاته هي سبب الحزن الحقيقي عند الكثير منا، فالموت مقابل الحياة خضوصا لشاب سيئ قاس وحزين.. شاب لم يسأله أحد يوماً ما عن تلك الصخرة التي يحملها دوماً فوق كتفه، شاب لم يجد حلمه خارجه فمات به داخله طوال الوقت..

تركنا مُعلناً اننا فقدنا مُكرس أصيل للتعبييرعننا،فقد رحلً مخلصاً تاركاً أثراً من شعر يشبه صاحبه وإنحيازاته وأحلامه.. لا يوجد فرق حقيقي بين شباب كثيرين من أبناء هذا الجيل وبين زهير.. فهذا ليس رثاء لشخص، ولكنه فقط تذكر لجرح وحلم قديم، فالحياة لا تقف أحياناً إلا علي من تركها ورحل حراً.. نعم كان مستقلاً وحراً.. نعم هي الحرية المطلقة أن تقرر أن تموت وقتما تشاء..   

الجريدة الرسمية