رئيس التحرير
عصام كامل

على حساب المغفلين!


مثل كل القيم النبيلة نحولها بسلوكنا المتطرف لعكسها تماما فشهر الصوم أصبح شهر التخمة والطعام والإسراف.
وشهر القرآن والتقرب من الله بتطهير النفوس وتهذيبها أصبح شهر المسلسلات والنميمة والغيبة والتلاسن والتطاحن، وصار الكل يجهز بضاعته ليحل مكان الشياطين المصفدة طوال الشهر، وأصبح هناك السحور الراقص والخيم الرمضانية الغنائية حتى مطلع الفجر، وتحولت شاشات الفضائيات لصراع على الإعلانات التي تخاطب شعبا آخر بمعني أن ملاك المنتجعات ذات الملايين ليسوا بحاجة لتلك الإعلانات المستفزة لأكثر من ٦٠٪‏ من الأمة المصرية، وتركيز كل الجمعيات الخيرية على حملات التبرع في هذا الشهر يعني أنها فشلت طوال أحد عشر شهرا في تسويق رسالتها.

والأمر نفسه لحملات التبرع للمستشفيات مع العلم أن هناك مستشفيات في المدن والمحافظات في أمس الحاجة لتلك التبرعات أكثر من مستشفيات العاصمة ولكنها ليست لديها حتى القدرة على الشكوى من النقص في كل شيء بدءا من الأسرّة ومستلزمات العلاج والأجهزة الطبية والحضانات وأدوية الأمراض المستعصية باهظة الثمن.

وبعدما كانت لدينا وكالات إعلانية راقية ومؤهلة وتضم مئات الخبراء والمبدعين في تصميم المحتوى لم تعد هناك سوي بقايا وكالات لم تطور نفسها بعدما كانت تعتمد على شركات ومصانع القطاع العام وبعد التخلص منهما لم تطور تلك الوكالات نفسها وكالعادة انتظر المشاهدون إعلانات شركات المحمول الأربع بحكم أنها الأضخم إنتاجيا خاصة وإنها كانت تحمل مضامين إنسانية واجتماعية راقية مثلما فعلت في ٢٠١٦ بلم شمل العائلة وشهدت مشاركة عدد كبير من النجوم من مختلف الأجيال، حيث تم تغيير كلمات أوبريت “الليلة الكبيرة” بكلمات جديدة مع الاحتفاظ بلحن الموسيقار سيد مكاوي. 

اختتم الإعلان بصوت شيرين عبد الوهاب وهى تقول: ”العيلة مش بس قرايب، دي جيران وأصحاب، وحبايب، ومهما عيلتك كبرت هنجمعك بيها قوتك في عيلتك.” بتكلفة بلغت خمسين مليونا من الجنيهات.

وكان لاتصالات إعلان تليفزيوني في عام ٢٠١٦ واحد يروج لرسالة بسيطة لجذب المزيد من العملاء، يصور أشخاصًا يقومون بأنشطة مختلفة في حياتهم اليومية. كانت الرسالة تؤكد فكرة أن شركة اتصالات تمثل جزءًا من حياة الناس اليومية. 

كما أكدت أنها كانت متواجدة معهم لفترة طويلة، خلال الأوقات السعيدة والحزينة ونفذت شوكة ألبان إعلانًا تلفزيونيًا واحدًا لم تروج فيه لأي منتج، بل كان إعلانا لخدمة عامة. كجزء من حملات رمضان التسويقية لعام 2016، دعا الإعلان لتقدير الطعام والتوقف عن إهداره أو رميه. ضم الإعلان أشخاصًا يزرعون ويحصدون ويطهون الطعام. ثم اجتمعوا لإعداد طبق مليء بالطعام. كانت الفكرة هي إظهار عدد العمال والمزارعين وربات البيوت والطهاة الذين يعملون بجد ويساهمون في توفير وجبات الطعام في الوقت المناسب.. 

وهكذا كانت هناك رسائل هامة تعبر عن المرحلة التي تعيشها مصر، وكان الإعلان عن ظاهرة أو قيمة ويقوم به مجموعة، حتى ظهر نجم كرة القدم العالمي "كريستيانو رونالدو" في إعلان عن الحديد ليحظى الإعلان بنسبة مُشاهدة عالية، غير أنّه كـفكرة لم يكن على المُستوى المطلوب، فقد جاءت بشكل تقليدي، وبعيدًا تمامًا عن صناعة الحديد والصلب، غير أنّه حقق مزيدا من الشهرة لمالك العلامة التجارية.

حتى كانت الفجاجة في إعلانات هذا العام لشركات المحمول حيث قامت تلك الشركات بتنجيم عدد من المطربين باستعراض التطور الزمني لواحد منهم، وبدا كإعلان للنجم وليس لقيمة أو سلعة، وقامت شركة أخرى بدويتو بين المطرب المنافس بمصاحبة مطربة لبنانية، بينما قامت الشركة الثالثة باستدعاء العالمي "فان دام" لمناطحة "نمبر وان".

أعتقد أن كم الإعلانات المدفوعة الأجر التي تقوم بها الشركات الكبرى تؤكد أن هذه الشركات معها أموال أكثر من حاجتها، بدليل أنها "تطعم الوحوش" (feeding the beast) من خلال أجور ضخمة، وبذخ غير مبرر مع رسائل إعلامية وإعلانية تتبارى في التفاهة.

هذه الأجور وهذه النفقات أهل مصر أولى بها. لماذا لا تقوم كل شركة بعمل مشروع خدمي ما؟ ممكن أن يكون المشروع الخدمي هو "كوبري" مشاة عند منطقة شديدة الازدحام، يموت فيها من يموت ويصاب فيها من يصاب ويتعطل فيها من يتعطل.. وكل المطلوب هو عمل مشروع خدمي والإعلان عنه، فيكون البطل في الإعلان هو الخدمة التي قدمتها الشركة للمواطنين ولا يكون البطل هو نجم ليس بحاجة لهذه الأموال.

وبغض النظر عن اللا قيمة والشخصنة فإن تلك الملايين هي بالقطع من جيب المستهلك، الذي يعاني من تدهور خدمات تلك الشركات، والتي تحقق شهريا عشرات الملايين كأرباح، بينما تزدحم خطوطها وتتكدس وتتدهور الخدمة بدون رقيب، وكان الظن إن ما يحتاجه العميل يحرم على الفنانين، ولكننا في أوضاع مقلوبة طالما لا توجد جمعيات قوية لحماية المستهلك بكل أسف، وترك هذه الشركات الأجنبية تفعل ما تشاء على حساب المغفلين.
الجريدة الرسمية