رئيس التحرير
عصام كامل

على حزين يكتب: فيزا كارت.. (قصة قصيرة) (2 - 2)

على حزين
على حزين

لاحظ أن أحد الواقفين يتابعه من طرف خفي.. تحسس جيوبه، ليتأكد أن كل شيء في مكانه، وقد شعر بالألم في قدميه، من طول الوقوف والانتظار. 

ولما رأى أن الوقت لم يحن بعد، ووقوفه قد يطول، أطلق العنان لعقله، وراح يتخيل أشياء، ويحلم بأشياء، فهو تعود أن يهرب من واقعه المر الأليم بالخيال وبأحلام اليقظة، وفي المنام؛ فكثيرًا ما حلم وسرح بخياله، وتخيل أنه رجل له نفوذ، وثراء فاحش، معه فلوس كثيرة.. شركات، ورصيد في كل بنوك الأرض، وطابور من موظفين والمنافقون يقفون له كل صباح ومساء، يستجدون رضاه بابتسامتهم المنافقة، ونظراتهم التي لا تستطيع أن تخفي حقدهم، وغلهم الدفين، وعربية أحدث موديل وفيلا أحدث طراز، ويخت، وطائرة خاصة.. ممكن تقولوا عليه خيالي حبتين أو حتى مريض نفسي، أو أي مسمى آخر.. لكن تلك هي الوسيلة الوحيدة التي أصبحت أمامه، أو قل هوايته المفضلة للهروب من واقعة المر الأليم، وحتى يستطيع أن يتغلب على ضغوط الحياة، وحتى لا تفترسه الأمراض بسبب الضغط النفسي.

يعود من خياله على الأصوات المرتفعة حوله.. ينتبه لما يقولونه، أسقط في يده.. سمع أحدهم يقول: الماكينة وقفت.
آخر يقول: الظاهر الشَّبَكَة وقعت.
ثالث يقول: لا لا يا جماعة الظاهر الماكينة خلصت فلوس.
تقدم ليقف مع الملتفين حول الماكينة، وهم يحاولون معها، وكأنهم يستجدونها بأن تخرج لهم النقود.. فالعيد على الأبواب.. طلب منهم أن يتركوه يضع بطاقته في الماكينة.. لعل وعسى تستجيب، وتخرج النقود له، فأذنوا له بذلك، سمع من يقول له، وهو يضع البطاقة في الماكينة.
ــ ما تحاولش يا أستاذ.. يا إما الشبكة وقعت، ويا إما الماكينة خلصت فلوس.
وضع بطاقته، ثم الرقم السري بحذر حتى لا يعرفه أحد من الواقفين، وانتظر ريثما تقرأ الماكينة بيانات البطاقة، مع الطلب بالانتظار، ثم جاءت المرحلة الثانية.. ضغط.. اختار اللغة العربية وانتظر مرة أخرى، حتى جاءت المرحلة الثالثة، وفي كل مرحلة تنفرج أسارير وجهه، بقدر ما تنجح المرحلة، والكل من حوله كتم أنفاسه، في انتظار أن تتم العملية بنجاح، فالكل ينتظر راتبه، والعيد على الأبواب، حتى جاءت المرحلة الأخيرة.. قرأ على الشاشة: "نأسف لعدم إتمام العملية.. رجاء بسحب البطاقة والمحاولة مرة أخرى".
ضحك بعض الواقفين وراح البعض الآخر يسخط ويسب ويلعن العيشة أما هو فقد جلس في مكانه على الرصيف غير عابئ بمن ينظرون إليه من المارة، وجاء في ذهنه ألف سؤال وسؤال، وافترض في عقله ألف احتمال، وراح يدورها في رأسه برهة من الزمن مرت عليه كدهر وهو لا يدري كم من الوقت مر وهو جالس مكانه.. نظر حوله فلم يجد من كانوا واقفين معه أو حوله قام من مقامه هيأ نفسه للانصراف، وعندما اقترب من الماكينة اقترح على نفسه أن يجري محاولة أخيرة.. وضع البطاقة في الماكينة.. أجرى المرحلة الأولى والثانية حتى المرحلة الأخيرة، ثم وقف ينتظر، وإذا بالعملية تنجح، وإذا براتبه يخرج من المكنة، فيأخذه، ومن شدة الفرح كاد أن ينسى البطاقة في الماكينة، كورهم في جيبه دون أن يعدهم، فهو يثق في الإنسان الآلي أكثر من الإنسان العادي.

وبينما هو في طريقه إلى البيت إذا بخناقة كبيرة معركة دارت رحاها بسبب أجرة "التُوك توك" وغلاء الأسعار، والناس قد اجتمعت محتشدة تكاد تسد الشارع حول المشاجرة.. تلفت في الوجوه ربما يجد أحدًا يعرفه في المعركة فلم يجد، فأكمل سيره وطريقه ولم يهتم وتجاوزها وانصرف.. مر على السوق.. اشترى كيسًا من الفاكهة لأولاده، مع كيلو كنافة باثني عشر جنيها، بكل ما كان معه من نقود كانت في جيبه قٌبيِِل المرتب، ولم يشأ أن يجرح الراتب؛ فالراتب له مهمة أخرى أكبر من ذلك. 

عاد إلى البيت. أعطى ما في يده لزوجته التي استقبلته بترحاب وانبساط وسعادة اعتاد عليها كلما عاد من الخارج وضع يده في جيبه ليخرج راتبه، ليضعه مع المبلغ المدَّخر للأزمات وللظروف والشدائد، لكن يده خرجت خاوية، فظن أنها في الجيب الثاني، فهو كثيرًا ما يضع الأشياء وينساها، ولا يعرف مكانها، فخرجت يده خاوية مرة أخرى.. فتح حافظته أخرج أحشاءها، فلم يجد المرتب.. بحث في نفسه، فلم يجد المرتب، كاد عقله أن يطير.. رأته زوجته وهو يدور في البيت بشكل هستيري.. يبحث يمنة ويسرة.. ولما استغربت حالته سألته ما به، فأخبرها بما كان، وبما حدث، وبضياع الراتب الشهري، وأنه لا يعرف هل هو وقع منه، أم سرق، وصوته لا يكاد يبين من شدة البكاء، والنحيب، فصرخت زوجته في وجهه صرخة شديدة.. كادت أن تهد البيت على أم رأسه ، صرخة كتمت عنه الهواء، فجعلته لا يكاد يتنفس.. بل يكاد يموت.. حرك نفسه بكل قوة حتى يدفعها بعيدا عنه ويتخلص من صراخها، حتى يمكنه أن يسترجع، ويتذكر كيف حدث هذا معه، وكيف ضاع راتبه!!

أفاق.. قام من نومه فزعًا وهو يدفع عنه الغطاء بقوة، ليتنفس الهواء، وزوجته واقفة فوق رأسه، في محاولة لإيقاظه فلما أفاق من نومه، قالت له:
ـــ ما بك؟! ماذا حدث؟!
فأجابها وهو يبحث عن الماء ليشرب.
ــ كابوس كاد يكتم أنفاسي.
فتجيبه، وهي ُتقرب منه كوب الماء البارد ليشرب، وهو يمسك بكوب الماء يرفعه إلى فمه، حتى يسترد قوته، ويستعيد نشاطه، ويستوعب ما حدث: الحمد لله يا اخويا.. الحمد لله.
Advertisements
الجريدة الرسمية