رئيس التحرير
عصام كامل

مرسي جميل عزيز.. الكبرياء يصنع المجد أحيانًا

فيتو

لم يكن مرسي جميل عزيز ابن الـ«12 عامًا» وهو يكتب قصيدة في رثاء أستاذه، يعلم أنه سيصبح واحدًا من أسطوات الكلمة، وأحد أهم العلامات البارزة في تاريخ الفن والأغنية المصرية والعربية، ولكنه ركب قطار الموهبة في هذه السن الصغيرة، ليجني ثمارها وهو في سن الـ«18 عامًا».



1000 أغنية، عن العواطف والوجدان والوطنية والدين، رصيد «عزيز» المولود في 15 فبراير عام 1921، بمدينة الزقازيق لأب فكهاني، علّمه كيف يتذوق الكلمات، وكيف يقرأ القرآن، وحفظه المعلقات السبع كاملة، فأطلق حب الشعر على فؤاد نجله الصغير، وأوقعه في غرام عمالقته، ومن "السوق" بدأ استكشاف موهبته.

يكتب مرسي في عام 1939: "يا عايق ولا النوار.. يا مكحل عينيك أسرار.. يا جار الهنا يا جار"، ترسي ثقافة جميل عزيز الشعبية التي اكتسبها من خبرة ضخمة خلال عمله في سن صغير مع والده، أول ملامح كاتب من العيار الثقيل؛ يغني له عبد العزيز محمود، «يا مزوق يا ورد في عود» فيصبح بسببها من أهم مشاهير الغناء الشعبي، ويسجل شاعر صبي لم يتخط عمره الـ20 عاما، اسمَه بين أهم المؤلفين الكبار، والفتى الذهبي للأغنية المصرية، الذي يستعجل قطف ثماره الجميع.


كان «عزيز» معتزا بكبريائه، يحلل السوق الفني على طريقته، هو ابن الحي الشعبي الذي لم يكمل تعليمه، وخرج من كلية الحقوق ولم يحصل على شهادة جامعية، بكل ما يمثله ذلك من مواد دسمة لإسقاطات الصحافة أحيانا، ورغم ذلك رفض الوصول للقمة عبر تعويذة الثنائيات التي جمعت بين المؤلفين الكبار وعمالقة الغناء، لدرجة أن كل مؤلف كان يعرف في الساحة بنجم محدد، ويُنسب نجاحه إليه، ودونه لن يعرف كيف يكمل الطريق.

يحدث «مرسي» نفسه: أحمد رامي يتربع على ساحة الشعر الغنائي بسبب أم كلثوم، وفريد الأطرش خلف شهرة محمود الشناوي، ولو لم يكن عبد الوهاب، لاختفى حسين السيد، حتى محمود شكوكو، هو أكسير الحياة لفتحي قورة، ويقرر "عزيز" السير في طريق عكسي، عطله عن التواجد بصحبة النجوم العمالقة، ولكن حقق له ما أراد، أن يكون هو صانع النجوم وليس العكس، فتبنى موهبة عبد العزيز محمود، وساهم في صنع أسطورة عبد الحليم، وكتب له أغاني أول فيلم له، ومنها الأغنية التي حطم بها قلوب العشاق «يا قلبي خبي».


الطريقة التي يرى بها «مرسي» نفسه، كانت واضحة في لقاء نادر له مع التليفزيون المصري، تحدث فيها عن محاولات شاقة بذلها صديقه الملحن محمد الموجي حتى يقابل الشاب «عبد الحليم حافظ»، ويستقطع من أوقاته دون أن يعرف عنه، ما يجعله يتفرغ له حتى لو كان بلدياته كما حاول الموجي استمالته للموافقة على اللقاء.

يكشف عزيز في المقابلة نفسها، الوجه الآخر لكبريائه، هو ينحاز باندفاع للمواهب، لدرجة أنه رحب بالعمل مع عبد الحليم، بعد أول لقاء لهما، ومن شدة افتتانه بصوته، كتب له في نفس اليوم طقطوقة «مالك ومالي يا أبو قلب خالي» وهي أول أغنية توزع في أسطوانات لعبد الحليم، واستمر التعاون بينهما في نحو 35 أغنية، كانت من أشهر العلامات التاريخية بمشوار عبد الحليم، «نعم يا حبيبي، وبأمر الحب، يا خلي القلب، وبتلوموني ليه، «وفي يوم في شهر».


قدم مرسي جميل عزيز فايزة أحمد للإذاعة، ولم يكن يتعامل معها، فاشترطوا عليه كتابة أغنية لها، فكانت أسطورتها الخالدة «أنا قلبي ليك ميال»، وليست وحدها، محرم فؤاد أيضا صنع مجده بلمسات مرسي جميل عزيز، وردود الأفعال على أغنتيه «الحلوة داير شباكها، ورمش عينه اللي جارحني»، قفزت به من الدرجة الثالثة، إلى مقاعد النجوم، بفضل الشاعر العبقري.


بمرور الوقت، وصعوده نجمه، فشل مخطط هروبه من العمل مع «الكبار» هاتفته أم كلثوم بإصرار، وطلبت مقابلته ولم تستسلم لمسلسلات هروبه منها، في واحدة من نوادر أم كلثوم، التي لم تكن تحدث إلا مع «مرسي»، لذا لم يتردد في مصارحتها بجلسة ودية عن متلازمته، ونقطة ضعفه التي اعتبرها بعد هذا اللقاء «زلة شيطانية» كانت تستحوذ عليه، وتمنعه من العمل مع علامات الغناء المصري.

نجحت أم كلثوم بكاريزمتها الطاغية، في تذويب الأفكار السلبية عنه التعامل معهم، خاصة أنه كان ملء السمع والفؤاد، وفي هذه الوقت مجرد سماع اسمه من مقدمي الأغاني في الإذاعة، كان كفيلا بجلوس الآلاف والاستماع بشغف، إيمانا من جمهور هذه الحقبة، بقدرات مرسي جميل عزيز.


تعاملت كوكب الشرق بشكل خلاق مع غروره المهني، فأبدع لها في نفس اللقاء الأول بـ«3 مقدمات» عرضهم عليها للبدء في أحدهم، وبذكاء نادر تركت له حرية الاختيار، فكانت رائعتها «سيرة الحب»، ولحنها المبدع الشاب بليغ حمدي، وتبعها بـ«فات الميعاد وألف ليلة وليلة».



دخل مرسي جميل عزيز العديد من المعارك الفنية، كان أخطرها على اسمه الكبير وسمعته الفنية، اتهامه في ستينيات القرن الماضي، من الناقد الفني الكبير جليل البنداري، بنسخ أفكار أغانيه من أعمال قديمة، وكانت معركة كبيرة، اشترك فيها بعض منافسيه من الكُتاب، على رأسهم مأمون الشناوي، الذي تضامنوا مع البندراي ضد عزيز، واتهموه باقتباس فكرة أغنية قديمة للمنولوجست سميرة عبده، ليكتب منها رائعة "حبك نار" لعبد الحليم حافظ، التي نجحت نجاحا شديدًا، ورفعت من عبد الحليم ومرسي إلى مكان بعيد عن أقرب منافسيهما.



طالب «عزيز» جريدة الأخبار بتشكيل لجنة للبحث في الاتهامات الموجهة إليه، بعضوية صلاح عبد الصبور، والدكتور على الراعي، والدكتور محمد مندور، وهم من كبار رجال النقد آنذاك، وبرأت اللجنة مرسي من الاحتيال على الكلمات والأفكار، كما دافع عنه أيضا مشاهير من الشعراء، على رأسهم عبد الرحمن الأبنودي.


استمر مرسي نجما متوهجا، يفتتح الموسم الغنائي وهو الذي ينهيه أيضا، ألّف أغاني لـ25 فيلمًا بدأها بـ«مبروك عليكي» عام 1949، واختتمها بـمولد يا دنيا عام 1976، وأبدع في القصيدة الشعرية، والأغاني الوطنية، ومنها رائعته التي غناها محمد فوزي «بلدي أحببتك يا بلدي»، وتنوع بين كتابة الأوبريت الغنائي والقصة القصيرة والسينمائية، كما كتب سيناريوهات بعض الأفلام.

كان عزيز ظاهرة نقدية في الصحف والمجلات المصرية، وظل محتفظا ببريقه، حتى توفى في التاسع من شهر فبراير عام 1980، بعد رحلة طويلة مع المرض، لم تفلح مستشفيات الولايات المتحدة في شفائه، ليقرر العودة وينهي حياته بكبرياء فوق تراب مصر بعد مشوار حافل، ودفن في مسقط رأسه، وترك لنا مكتبة ضخمة تتوارثها الأجيال، وحكاية إنسانية من أرشيف الزمن الجميل.


الجريدة الرسمية