رئيس التحرير
عصام كامل

شباب «منزل بوزيان» التونسية.. عقارب الزمن توقفت عند الثورة

فيتو

منزل بوزيان مدينة صغيرة بولاية سيدي بوزيد، سقط بها أول شهداء الثورة التونسية.. مراسل DW عربية زار المدينة وتحدث مع عدد من الشبان ومع أفراد أسرة مكلومة بعد ثماني سنوات من اندلاع الثورة.

على طول الشارع الرئيسي لمدخل مدينة منزل بوزيان، وهو من بين الطرق القليلة المعبدة في المدينة الواقعة بولاية سيدي بوزيد، لا شيء يدل على تحضير رسمي للاحتفاء بذكرى الثورة قبل يومين من عيدها الثامن. لكن وحدها اللافتة العملاقة المعلقة على واجهة المركز الثقافي في مدخل جانبي متفرع عن الشارع، تذكر الزائرين بمن سقطوا في انتفاضة يناير 2011.

خلف أبواب مغلقة ومن وراء سور منخفض للمركز يمكن مشاهدة صور شهداء منزل بوزيان على اللافتة الحائطية تتقدمها صورتا محمد عماري وشوقي النصري الذين توفيا تباعا يوم 24 ديسمبر 2010 كأول شهيدين للثورة، بعد أيام من الشرارة التي أطلقها البائع المتجول محمد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد مركز الولاية (المحافظة) وانتهت يوم 14 يناير/كانون الثاني بسقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن على.

24 ديسمبر سقوط أول شهيد
وعلى بعد أمتار فقط من أمام السور يشرح أصدقاء محمد عماري، من المعطلين عن العمل حتى اليوم أمام خيمة اعتصام لهم، أحداث يوم وفاته على مقربة من سكة قطار الحديد، أين سقط على الفور برصاصة شرطي، في غمرة الاحتجاجات ضد البطالة والفقر.

يستحضر كريم فاضل أحد أصدقاء محمد ذلك اليوم في حديثه مع DW عربية قائلا: "كان الشباب يحتجون على مقربة من سكة القطار. تلقى شوقي أولا رصاصة من قوات الأمن وبقي ينزف. حاول محمد أن يجره بعيدا لكن رصاصة ثانية قنصته واخترقت جسده ثم توفي على الفور بينما فارق شوقي الحياة لاحقا في المستشفى".

ويضيف كريم في حديثه أن عدد الشهداء كان يمكن أن يكون كارثيا في ذلك اليوم لو لم يحْتم الشبان المحتجون بظهر القطار الذي صادف وقوفه في ذلك الوقت، لتنهال أغلب الرصاصات على عرباته.

وليس بعيدا عن موقع وفاة محمد، وفي منزل عائلته الكائن في الحي الداخلي للمدينة بين أزقته المتربة تحتفظ صورته نفسها المعلقة بمركز الثقافة، بمكانها منذ العام 2011 على الحائط المواجه للباب الرئيسي للمنزل، بينما تطغى مشاعر اللوعة ذاتها المنبعثة من صدر الأم مباركة كما لو أن محمد فارقها بالأمس.

لا تجد مباركة الكثير من الكلمات وهي تحدق في الصورة لتعبر عن مشاعرها المختلطة غير أن الغضب كان أسبق من كلماتها لتلقي باللائمة على السياسيين والحكومات المتعاقبة قائلة "حينما تكون هناك انتخابات يتذكرون الشهداء ويأتون إلى المنزل. محمد مات مقهورا.. أذكره باستمرار ولا يمكنني أن أنسى".

صدرت أحكام نهائية بالسجن بحق قتلة محمد من قبل القضاء العسكري لكن عائلة عماري لا ترى عدالة حقيقية في تلك الأحكام. كما أن ملف التعويضات المالية ما يزال معلقا إذ لم تحسم السلطات القائمة النهائية للشهداء والجرحى منذ 2011 ما قد يمهد لعائلات الضحايا من نيل حقوقهم كاملة. وتعهدت أيضا هيئة الحقيقة والكرامة بتفعيل إجراءات "جبر الضرر المعنوي" للضحايا لكن لم تتضح للعائلة بعد كيف ومتى سيحصل هذا التعويض.

في الأثناء منحت الحكومة دفعة أولى من التعويضات قدرت بـ40 ألف دينارتونسي (اليورو يعادل 3،4 دينار تونسي) شملت عائلة عماري وقد مكنت تلك التعويضات ابنا من بين سبعة إخوة من وظيفة، لكن باقي الإخوة ومثل الكثير من أهالي البلدة يعملون بنظام "الحضائر" (عمال عرضيين) بمرتبات شهرية لا تتجاوز 124 دولارا.

تضحيات ينقصها الثمار
يعترف بوبكر عماري الشقيق الأكبر لمحمد لـDW عربية بأن التضحيات التي قدمها محمد وشوقي وباقي الشهداء لم تغير من واقع منزل بوزيان حتى اليوم، وهذا ما يضاعف مشاعر الحسرة والمرارة للعائلة، بينما قال العم بشير الأب البالغ من العمر 85 عاما، إنه في حال عاد الزمن إلى الوراء فإنه سيظل يسمح لمحمد بالاحتجاج في الشوارع من أجل أن ينال حقه وحق المدينة في التنمية.

لتفادي نفقات التنقل يستخدم الأهالي الدواب والعربات التقليدية القديمة على نطاق واسع لقضاء شؤونهم، مع ذلك فليس هناك مفر من معاناة التنقل نحو المدن المجاورة بسبب افتقاد منزل بوزيان للكثير من الخدمات. لا يوجد فرع بنكي في المدينة ولا مركز للشرطة ولا فروع لخدمات توزيع الكهرباء والماء أو خدمات للشئون الاجتماعية.

وعلى أطراف المدينة تبدو المنطقة الصناعية كقرية أشباح تحيط بها الأعشاب، إذ شيدت ثلاث مصانع جديدة منذ العام 2013 لكن أبوابها لا تزال مقفلة منذ ذلك الوقت لغياب مستثمرين، في حين توقف مصنع رابع للنسيج عن العمل، ليعمق أزمة البطالة في الجهة.

ويعتقد أّبو بكر أن تشغيل المنطقة الصناعية كفيل بأن يحل جانبا كبيرا من أزمة البطالة ويمنح المدينة دفعة اقتصادية كاملة، لكن إبقاء الوضع على ما هو عليه لنحو ست سنوات رسخ انطباعا لدى الأهالي بخضوع منزل بوزيان إلى "عقاب جماعي"، وسبّب ذلك حالة توتر وأزمة عميقة طفت على السطح بين أهالي الجهة والحكومة الائتلافية الأولى التي قادها حزب حركة النهضة الإسلامي في عام 2012 إثر فوزه في أول انتخابات حرة ونزيهة في البلاد.

ويقطن مدينة منزل بوزيان نحو تسعة آلاف نسمة وهي مركز لمعتمدية (مقاطعة إدارية) يسكنها قرابة 33 ألف، يعيش معظمهم على الزراعة والخدمات وتقع المنطقة بين سلسلة جبلية.

"حراك 24 ديسمبر" للعاطلين عن العمل
فوق سكة القطار في خيمة اعتصام "حراك 24 ديسمبر"، التاريخ الرمزي ليوم وفاة محمد عماري، يلتف الشبان المعتصمون حول وعاء كبير من الحطب والجمر للاحتماء من الجو البارد. يبدأ المعتصمون منذ الصباح بالمناوبة للإبقاء على اعتصامهم مفتوحا بهدف منع مرور القطارات المحملة بالفوسفات والقادمة من ولاية قفصة المجاورة، في خطوة للضغط على الحكومة المركزية.

ويذكر أن تونس تراجع مركزها كرابع منتج للفوسفاط في العالم سنة 2010 بقيمة 8،2 مليون طن سنويا إلى النصف تقريبا خلال ثماني سنوات بعد الثورة، وتقول الحكومة الإحتجاجات المتواصلة في منطقة الحوض المنجمي بقصفة تسببت في تراجع هذا الإنتاج الإستراتيجي في اقتصاد البلاد.

وحول أوضاع الشباب العاطلين عن العمل في مدينة بوزيان، تقول آماني الزويدي المتحدثة باسم المعتصمين وهي حاملة لشهادة ماجستير في الفنون التشكيلية وعاطلة عن العمل، في حديثها مع DW عربية "الحكومة لا تفهم ولا تبد أي تجاوب عبر التفاوض. سنوات من الوعود المستمرة والمماطلة والتسويف. لن نرفع الاعتصام قبل تحقيق المطالب".

بالنسبة لزمليها كريم فاضل فإن الأوضاع في منزل بوزيان ومقارنة ببداية الاحتجاجات في 2010 تبدو أكثر سوءا اليوم كما أن الآفاق أكثر ضيقا في ظل التنكر المستمر للحكومات المتعاقبة على السلطة منذ 2011 لمطالب الجهة، حسب توصيفه.

يبلغ عدد المعتصمين في الحراك أكثر من مائة شاب من بين نحو 2700 عاطل في منزل بوزيان، حسب إحصائيات قدمها المعتصمون، وعدد كبير منهم من حاملي الشهادات الجامعية عليا، وهو ما يضاعف حالة السخط لدى الكثير من العائلات في الجهة والتي اضطرت إلى التداين والاقتراض من أجل إلحاق أبنائها في الجامعات، دون أن يحصلوا لاحقا على فرص عمل رخم تخرجهم منذ سنوات.

رضا الحمدي من المعتصمين الحاصلين على شهادة عليا، حصل على إجازة التربية البدنية عام 2012 ومنذ ذلك الحين يشارك كل عام في اعتصام "حركة 24 ديسمبر" لكنه لا يتوقع تجاوبا من الحكومة الحالية، وهو يضيف قائلا "قدمت الحكومة وعودا كثيرة لتشعيل العاطلين من بينها تفعيل المنطقة الصناعية لكنه بقي مجرد كلام في الهواء".

مع ذلك تشدد آمنة على أن الاعتصام سيظل مستمرا على أمل تحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية في منزل بوزيان، مضيفة "نحن على ثقة بأنه سيأتي يوما ننتزع فيه حقوقنا. لا يزال الأمل يحدونا بأن التغيير سيحصل ولن نيأس".

وليست مدينة بوزيان وحدها تعيش حالة احتجاجات اجتماعية بل تشهد مناطق عديدة من البلاد في الأسابيع الأخيرة احتجاجات متواصلة على تكاليف المعيشة والضرائب وضعف فرص العمل، فيما تدعو حكومة يوسف الشاهد إلى الهدوء والتحلي بالصبر متعهدة بتحسين الأوضاع.

هذا المحتوى من موقع دوتش فيل اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل


الجريدة الرسمية