رئيس التحرير
عصام كامل

سألت شيخي فقال..


عزيزي القارئ لقاء جديد مع ذكرياتي مع شيخي رحمه الله تعالى وحواراتي معه.. سألته يوما عن مفهوم العبودية وعن حضرة الربوبية وما الفرق بينها وبين الألوهية.. فقال: يا بني لقد سألت سؤالا جامعا لجوهر الحياة وحقيقة الكون والوجود، وهذا السؤال يتعلق بثلاث هي.. العبودية والربوبية والألوهية..


العبودية خاصة بعوالم الخلق، فكل ما في الكون لله تعالى عبدا، وقد خص الإنسان بعبادة التكليف الاختياري، وما عداه من الخلق فطره الله عزوجل وجبله على عبودية التكليف اللا اختياري، أي ليس له اختيار مفطور ومجبول ومسخر بالقدرة الإلهية، لا اختيار له ولا حول له ولا قوة كالملائكة لا يعصون لله أمرا، يفعلون ما يأمرون به، ولا اختيار لهم..

وهكذا حال كل العوالم السماوية والملكوتية بكل ما فيها من سموات وأفلاك وأملاك ومجرات ونجوم وكواكب وشمس وقمر وليل ونهار، ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في آيات كثيرة في كتابه الكريم، منها قوله تعالى: "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون".. وهكذا سائر الكائنات والمخلوقات..

والإنسان وحده بين عوالم الخلق والكائنات هو الممنوح من الله سبحانه الحرية والاختيار في الإيمان والعبادة، فله أن يؤمن أو أن يكفر لقوله تعالى: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".. وبناءً على ذلك يُطيع أو يعصي، والإنسان مبتلى ومختبر في هذا الاختيار.. وهذا الاختيار هو أمانة التكليف.. تلك الأمانة التي عرضها الله تعالى على السموات والأرض والجبال فأشفقن منها وحملها الإنسان.. ولم يؤدِ أمانتها كاملة فيما عدا القليل من البشر..

هذا وكلمة العبادة تعني الولاء والانقياد لله تعالى والطاعة والاستجابة لأوامر ونواهيه وإقامة حدوده سبحانه.. وأما جوهر العبادة وحقيقتها هي: أن يقيم العبد نفسه بين يدي ربه تعالى ومولاه جل علاه في مقام الذل والانكسار والعجز والافتقار وأن يظهر عوزه وفقره واحتياجه لخالقه عز وجل.. وإذا كان حال العبد كذلك أقامه الله في العز والرفعة والغنى، وتولاه وكفاه، فيكمن في الذل له تعالى العز، وفي الضعف بين يديه سبحانه القوة، وفي الافتقار إليه جل جلاله الغنى..

هذا وهناك مراسم للعبودية تتمثل في أعمال العبادات والطاعة وعلى رأسها إقامة الأركان والفرائض والحدود المتعلقة بمنهج رسالة الإسلام.. هذا باختصار عن مفهوم العبودية وحقيقة العبادة.. وأما عن ما يتعلق بحضرة الربوبية فهي منسوبة لله تعالى فهو رب العالمين وهي حضرة جمع الله تعالى فيها الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهي مناط تجلياته عزوجل على عوالم الكون وبها يدار الكون بما فيه هذا..

ولقد نسبها الله تعالى إليه، ودعى العباد عبادته سبحانه من حيثياتها حيث قال.. ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها.. أي اعبدوا واذكروه بها.. هذا وما من اسم من الأسماء إلا ويحمل بين طياته صفة من صفاته سبحانه الجامعة للقدسية والقداسة والعظمة والتنزيه والإطلاق.. وقد أخبرنا الله عن تسع وتسعين منها كما جاء في حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: "إن لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة"..

وفي الحقيقة أن لله تعالى أسماء لا أول لها ولا آخر منها، ما أنزله سبحانه وتعالى في كتابه ومنها ما يخص به من يشاء من المصطفين من عباده، ومنها ما خص به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومنها ما غيبه الحق سبحانه عن الخلق والدلالة على ذلك قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في دعائه: "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك. أو استأثرت به في علم الغيب عندك"..

هذا وعبادة الخلق لله تعالى من حيثية حضرة الربوبية.. لا من حيثية الإلوهية.. هنا استوقفت الشيخ وقلت.. اسمح لي يا شيخي أن نقف هنا وأن أسأل لماذا عبادة الخلق للخالق عز وجل من حيثية الربوبية لا من حيثية الألوهية.. تبسم الشيخ وقال: "يا بني اعلم أنه لا حيثية للألوهية، فالألوهية تشير إلى الذات، والذات الإلهية لا كيف لها، ولا أين، ولا وصف، ولا نعت، ولا شبيه لها، ولا ضد، ولا ند ولا شريك لها..

ذات تعالت عن صفات التنزيه والتقديس، تعالت عن المعرفة والإحاطة والكيف والإدراك، ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".. وهذه الآية جامعة للألوهية.. مشيرة إلى ذاتها ولحضرة الربوبية مشيرا لبعض أوصافها وهي آية جمعت ما بين صفات التنزيه وصفات التشبيه..

ففي قوله: "ليس كمثله شيء" إشارة إلى التنزيه المطلق المتعلق بالذات الإلهية، وفي قوله "وهو السميع البصير" إشارة إلى صفات التشبيه الظاهرة في الخلق المتعلقة بحضرة الربوبية. وأما عما يخص الذات الإلهية مفردة أشار سبحانه وتعالى إليها بقوله: "وما قدروا الله حق قدره".. وفي التحقيق.. لا يعرف الله إلا الله.. من هنا ومن لطف والله تعالى وبرحمته أن نسب لذاته تعالى حضرة جامعة للأسماء والصفات ودعانا لعبادته عز وجل من حيثياتها لأننا نحتاج في عبادتنا إلى أين وإلى كيف، والله تعالى حيث لا أين ولا كيف....
رحم الله شيخي فقد كان بحرا زاخرا بالعلوم والمعارف.. وإلى لقاء آخر وحوار جديد مع شيخي.
الجريدة الرسمية