رئيس التحرير
عصام كامل

مشروع لتطوير التعليم العالي والبحث العلمي (2)


تحدثنا في المقال السابق عن الركيزة الأولى من مشروعي لتطوير التعليم العالي والبحث العلمي، وتساءلت هل التعليم الجامعي مجاني أم لا؟.. وتوصلنا إلى أن نظام التعليم سواء في الجامعات الحكومية أو الخاصة لا يساعد على تخريج شاب واع ذو كفاءة.. وأن الأمر يحتاج إلى إعادة النظر في نظام التعليم.. ونكمل في السطور التالية باقي بنود المشروع..


ثانيا: التعليم العالي والتطور والإنتاج وحاجة المجتمع!
من أكبر مآسينا في التعليم الجامعي ثبات أو زيادة أعداد المقبولين السنوية في جميع الكليات والمعاهد!.. فمثلًا هل نحتاج كل هذا الكم من الصيادلة وليس لدينا مصانع أو معامل كافية لصناعة الدواء؟.. والنتيجة كما نرى تحول الصيادلة للأسف إلى بائعين دواء بعيدًا إلى حد كبير عما درسوه!.. وهل نحتاج كل هذا العدد من خريجي الحقوق؟ والنتيجة كما نلحظ تحوُّل الكثيرين منهم إلى سماسرة عقارات ومخلصي أوراق!!

فالعقود الماضية وسياسة التعليم العالي بها أدت إلى إهانة هذه المهن الجليلة عن غير قصد أو ربما عن قصد.. ومن قبلهما تمت إهانة مهنة الطب والزراعة والعلوم!

لذا فإن أهم أساسيات المشروع المقترح لتطوير التعليم العالي هو ربطه بالخطة بعيدة المدى لنهضة الدولة ونموها وربطة بدقة شديدة مع عجلة الصناعة والتجارة والاستثمار، فبَنَمَا حين قاربت استلام قناتها من أمريكا استعدت بجيش من المثقفين الذين تحتاجهم لإدارة القناة بنفس كفاءة الخبراء الأمريكان، فأخرجت معاهدها الآلاف من المحامين ورجال البنوك ومبرمجي الكمبيوتر.

فكانت النتيجة وجود فرص عمل مباشرة لهم حال تخرجهم في الجامعة كما أدى عملهم بفهم وإدراك إلى نجاح تشغيل القناة بأيدي أبنائها بأعلى كفاءة لتدر فورًا دخلًا مهولًا لدولتهم الصغيرة، فمثلًا هل نعرف بدقة كم طبيبًا نريد؟ وما توزيعهم الجغرافي؟ وما التخصصات المطلوبة؟ وما أدوات وأماكن تدريبهم؟ أم أننا نترك كل شيء لعشوائية الإنتاج والتوزيع والعمل دون محاولة للتنسيق التام بين الوزارات.

ومن المدهش رد فعل البعض وادعائهم في غير موضعه أننا حاليًا نفعل ذلك!! فالحقيقة أن هذا لا يحدث لا حاليًا ولا من قبل!! فلن ينجح التعليم العالي وتنجح معه الدولة بثبات إلا بتحقيق الارتباط الوثيق بين حاجة الدولة وخططها للإنتاج والتطوير ومنظومة التعليم العالي ونوعية وكم خريجيه.

فأهم مهام وزارة التعليم العالي ووزارة التخطيط (من وجهة نظري) هي جس نبض المجتمع ورصد فرص تطوره بناءً على بيانات دقيقة وخططًا محكمة للمستقبل، فمثلًا أرى بارقة أمل كبيرة في تكنولوجيا المعلومات وصناعة الإلكترونيات وبرمجة الكمبيوتر وسبقتنا فيها الهند فأصبح خريجيها عملة نادرة لكفائتهم وتتعاقد حاليًا معهم كبرى الشركات العالمية كجوجل وميكروسوفت حتى قبل تخرجهم.

كذلك تطورت تايوان وهونج كونج وسنغافورة بالاهتمام بعلوم البيوتوكنولوچي فأصبحوا معاملًا لشركات العالم العملاقة.

ولدينا كذلك فرصة كبيرة لنهوض مصر في هذا المجال بالذات، كذلك أولت الفلبين أهمية قصوى للتمريض والأعمال الهندسية لحاجة مجتمعها والمجتمع الخارجي لهم مما زاد من تحويلاتهم لبلدهم إلى ٣١ مليار دولار سنويًا.. كذلك ڤيتنام قد برعت في الإلكترونيات التي انخفض معها معدل بطالتها إلى ٣،٧٪؜ وزاد تصديرها السنوي إلى ٢١٤ مليار دولار سنويًا.. والصين برعت في الصناعة والتسويق والهندسة والعمارة لتقفز كثاني اقتصاد في العالم وربما الأول في المستقبل القريب.

إن أهمية ارتباط الجامعات بحركة التطور تخفض كمية المال المهدر لإنتاج خريجين بلا عمل وتختصر السنوات في النهوض الشامل بالمجتمع.. كما تساعد في توجيه الاستثمارات إلى المجال السليم.. وتكون أداة جذب للمستثمر الأجنبي لكفاءة خريجي الجامعات المصرية.

فبرغم التكدس الواضح في العديد من المهن التي تحتاج التعليم العالي فهناك صناعات أخرى تحتاج الكثيرين منهم كصناعة السياحة والفندقة والتصدير والدعاية والإنتاج الصناعي والتكنولوچيا الإلكترونية والطاقة والتكنولوجيا الرقمية وعلوم الكمبيوتر والفنون وغيرهم من التخصصات الدقيقة.

هذه النوعية من خريجي التعليم العالي تحتاجهم الدولة الآن ومستقبلًا وربما يكونوا أفضل لها ولمنظومة تطورها من الوظائف التقليدية التي اعتدنا عليها.

ثالثا: التعليم العالي وقاطرة البحث العلمي!
البحث العلمي ليس رفاهية أو جزءًا مكملًا للعملية التعليمية، لكنه في الحقيقة جوهر التعليم الجامعي، بمعنى أنك تُعَلِم الطلاب ليبحثوا وتعدل المناهج وأسلوب التدريس ليعيش الطالب سنوات الجامعة في مناخ متواصل من البحث العلمي الممنهج، فالبحث العلمي هو قاطرة النهضة وليس عربة من عرباتها، وطالب الجامعة يجب أن يكون باحثًا منذ سنته الجامعية الأولى فيعرف أسس البحث العلمي من اختيار نقطة البحث المبتكرة وتحديد هدف البحث ونظريته وأدوات البحث وتحليل النتائج والتعليق عليها وتوضيح نقاط الضعف والتميز في البحث واقتراح الأبحاث المستقبلية.

يجب على كل طالب جامعي أن يعرف كيف يعمل في مجموعة بحثية وكيف يسهم بفكره وعمله في دراسة المشكلات والبحث عن حلها، إن تطوير منظومة البحث العلمي تجعل خريج الجامعة مؤثرًا في مجتمعه ومطورًا فيه وله، لذا فليس من الغريب أن تقييم الجامعات العالمية وترتيبها مبنى في الأساس على البحث العلمي ونشره.

في الصين قالوا لي إن تخصيص تمويل المستشفيات هناك أصبح يعتمد على كم الأبحاث المنشورة من المستشفى وعامل تأثيرها، لكن للأسف يقوم معظم أعضاء التدريس في الجامعات المصرية بأبحاثهم بغرض الترقية فقط وليس بغرض البحث العلمي في حد ذاته، والنتيجة أنه بعد الترقية يتوقف البحث! وتوضع الأبحاث على الأرفف.

والمؤسف أن معظم الأبحاث لا تنشر في المجلات العالمية المعترف بها إلا قليلًا منها، من رأيي أن تُشَكِّل كل كلية لجنة علمية من الباحثين المميزين لتراجع مشاريع الأبحاث قبل القيام بها وتقدم النصح للباحث، كذلك الاستعانة بالخبراء في الداخل والخارج لمراجعة الأبحاث قبل نشرها حتى تحصل على أفضل الفرص في النشر بالمجلات العالمية، كذلك تحديد جوائز دورية للأبحاث الجيدة المنشورة عالميًا.

وأهم من ذلك كله التطبيق العملي لنتائج هذه الأبحاث أو تسجيلها كبراءات إختراع وليس وضعها كالعادة على الأرفف، فكثير من الكليات الغربية حصلت على ملايين الدولارات من الشركات مقابل براءات الاختراعات التي سجلتها أبحاثها، هذه الأبحاث خاصة الجيد منها يمكنها تطوير المجتمع وحل العديد من مشاكله، كما أن العديد من الأبحاث المبتكرة هي في حد ذاتها مشاريع صناعات أو خدمات قد تعود بالربح وتدير عجلة الاقتصاد والاستثمار.

لقد رأيت ثمار البحث العلمي في النمور الآسيوية والعديد من دول العالم الغربي وجاء دورنا لنسهم في التقدم العلمي بالبحوث ووضع مصر بقوة على خريطة العالم المتقدم، ولن يتم هذا إلا من خلال تطوير شامل لمنظومة التعليم الجامعي تجعل البحث العلمي مفتاح نجاحه، وحتى تأتي الأبحاث بثمارها المرجوة يجب على الدولة دعمها ماديًا وبشدة في سنواتها الأولى حتى تدور عجلتها باستقلالية عن تمويل الدولة وبالدفع الذاتي من ثمار نتائجها.

لقد ذكرت بإيجاز شديد تصوري الأعمدة الثلاثة الرئيسة لتطوير التعليم الجامعي من واقع خبرتي الطويلة بالغرب ومن محصلة زياراتي المتكررة للعديد من دول العالم، وفي كل زيارة كانت عيني فيها على مصرنا الحبيبة لذا فإني أتمنى من كل قلبي أن أرى مشروعي يومًا في حيز التنفيذ مع تحياتي وحبي لمصر وكل من فيها فهي دائما في خاطري وفي فمي!
الجريدة الرسمية