رئيس التحرير
عصام كامل

الرحمن.. فاسأل به خبيرا


يقول تعالى: "الرحمن فاسأل به خبيرا".. والخبير هو الذي يلم بالشيء من جميع جوانبه ودقائقه ويعلم غوامضه وخفاياه.. ويقول سبحانه وما ينبئك مثل خبير.. ويقول جل جلاله: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" صدق الله العظيم.. في بداية السبعينيات ومنذ أكثر من خمسة وأربعين سنة بدأت رحلتي في الطريق إلى الله تعالى، وكان من فضل الله تعالى أن قاد ركبي في رحلة السلوك أحد أكابر العلماء العارفين بالله تعالى، وتلقيت منه الأوراد والأذكار وعلوم الطريق وأخذت على يده العهد وكان بحق نعم المربي والمؤدب والمعلم والأستاذ.


ولم تكن تربيته وتأديبه لي بالقول والنصح والتوجيه فقط بل كان يربي بالمقال والحال والنظر، وهذا هو شأن أكابر الأولياء والعارفين، وصدق العارف بالله ابن عطاء الله السكندري إذ قال: "شيخك من ينهض بك حاله ويدلك على الله بمقاله"، هذا وقد حظيت بمحبته رضي الله عنه والقرب منه وكان لي نصيب كبير في نصحه وتوجيهه، وكم حظيت بجلسات خاصة أن فيها من علمه الغزير وحكمته..

وكان من شدة حبي له وصدقي في طلبي لله تعالى وكوني مريدا كنت أتلقى بمسامع القلب والأذن في آن واحد وأعي جيدا كل ما أسمع وأجتهد في العمل به وتطبيقه سلوك.. ومما أتذكره من تلك الجلسات الطيبة قوله لي: "يا بني، من صدق في كونه مريدا لله عز وجل جعله الله مرادا له تعالى.. ومن صدق في كونه طالبا جعله الله تعالى مطلوبا.. ومن صدق في كونه محبا ودلل بذلك قولا وعملا وسلوكا وحالا صيره الله عز وجل محبوبا له سبحانه"..

وقال: "يا بني.. عليك أن ترضى وإياك إياك أن ترضى، عليك أن ترضى بقسمة الله تعالى لك وقدره سبحانه فيك، وإياك إياك أن ترضى عن نفسك وإن بلغت مراتب الكمال، فالرضا عنها يفتح باب رؤية النفس والعجب والغرور وكلها مبعدات مهلكات"..

وقال: "يعترض سالك الطريق إلى الله تعالى وحلتان، وحلة أغيار ووحلة أنوار، وحلة الأغيار تتمثل في حب الدنيا والتعلق بها والانقياد خلف هوى النفس وشهوتها واتباع الشيطان.. والخروج منها يكن بمصاحبة الصالحين الأخيار ومجاهدة النفس وتجنب أهل المعصية والغفلة وملازمة الإقرار والاعتذار مع الندم والاستغفار.. وأما وحلة الأنوار فهي أشد وأخطر من وحلة الأغيار"..

فقلت له كيف ذلك يا سيدي فقال: "عندما يقبل العبد على الله ويجتهد في أعمال العبادات والطاعة والذكر والبر والمعروف والإحسان يقبل الله تعالى عليه ويتجلى على قلبه بالأنوار".

وفي الحديث القدسي يقول جل وعلا: "من تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولا".. هنا يشرق الحق سبحانه على قلبه بالأنوار ويمنحه علوما ومعارف وأسرارا ويُنير له بصيرته، هنا يخشى عليه من فتنة العجب بالنفس والتعالي على الخلق برؤية النفس..

ثم قال: "احتياج المريد لشيخه وهو في دائرة الأنوار أشد من احتياجه وهو في دائرة الأغيار".. وسألته يوما عن الفرق بين من يعترض على أقوال أهل الطريق من الصوفية وأحوالهم وبين من ينكر عليهم فقال: "الاعتراض عادة ما يكون عن الجهل وعدم المعرفة وضيق الفهم وإسناد الأمر إلى ظاهر الشريعة مع جهله بها والاعتماد على العقل، والعقل معقول وليس له مضرب في أحوال القلوب والأمور الغيبية والأسرار التي هي بين الحق سبحانه وبين خلصاء عباده.

وبالطبع من جهل شيئا عاداه وعلى الرغم من ذلك يرجى فيه الخير والإصلاح إذا فتح الله على قلبه ورزقه الفهم، هذا وأما عن المنكر لا يرجى إصلاحه وذلك لأن الإنكار الأصل فيه الجحود والغيرة والحسد وعداوة الحاسد لا تزول أبدا، انظر إلى إنكار مشركي قريش على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان إلا عن حقد وغيرة وحسد"..

هذا ولقد سمم أصحاب الفكر الوهابي المتشدد أفكار العامة من الناس الذين لا يعلمون علوم الدين، وسألته يوما عن حقيقة الزهد ومفهومه الصحيح وأحوال الزهاد.. فقال: "الزهد معناه العزوف عن الشيء والإعراض عنه وعدم الرغبة فيه، وما من زاهد إلا وهو راغب"..

فقلت له سيدي كيف ذلك.. قال: "من الزهاد من يزهد في الدنيا بزينتها البالية ونعيمها الفاني رغبة في الجنة في الآخرة، وهذا زهد خاصة أهل الإيمان زهدوا في متاع الدنيا الفانية ورغبوا في نعيم الآخرة الدائم.. وهناك زهد خاصة الخاصة وهم أهل محبة الله تعالى وهو الزهد في كل سوى أي الزهد في متاع الدنيا والآخرة رغبة منهم في الله تعالى، وأولئك سادة أهل الزهد، وهم الذين عبدوا الله عز وجل عبادة الأحرار لا طمعا في الجنة ولا خوف من النار، أمثال الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين، والسيدة رابعة العدوية رضي الله عنهم..

ثم قال: "الزهد حال قلب لا قالب فمن الناس من يملك الدنيا وقلبه فارغ منها وغير متعلق بشيء منها فكانت الدنيا في أيديهم وليس لها محل في قلوبهم"، هذا والزهد لا يصح إلا فيما يملكه العبد فلا زهد إلا بعد الملكية، وقال: "الزاهد هو من أمات حظوظ نفسه وليس للدنيا من قلبه نصيب".. وقال: "واجب على عامة المؤمنين الزهد فيما حرم الله تعالى، ويجب على خاصة أهل الإيمان الزهد في المباح الذي أباحه الله من الطيبات.. ويجب على خاصة الخاصة من المؤمنين الزهد في النفس وفي كل سوى وغير وما دون الله تعالى".. رحم الله أبي وشيخي وأستاذي وللحديث بقية..
الجريدة الرسمية