رئيس التحرير
عصام كامل

محمد غنيم يكتب: إمام الأئمة هدية القرآن للأمة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

من الناسِ من تبيض الوجوهُ برؤيَتهم، وتضيء العقولُ بعلمِهم، وترق القلوبُ لسماعِ أصواتهم، فكأنما وحي من الله قد نزل عليهم، فنشروا رسالته واستقبلها أهل الأرض طواعية، فقربوا قلوب العباد إلى رب العباد، ومن هؤلاء إمام الأئمة الذي عاش مع القرآن علما وتدبرا وعملا، فأعطانا القرآن هدية اسمها محمد متولي الشعراوي.


نحن لا نغالي في حب أحد، ولا نزكي على الله أحدا، ولكنه الإنصاف والعدل الذي نرجو من الله أن نحيا ونموت عليه، ما يجعلنا إذا تكلمنا عن الشيخ الشعراوي، نتأدب ونبالغ في القول بأجمل ما يستحق الرجل كحق أصيل جلبه القرآن إليه، وصور الوحي عديدة فلا نقصد وحي النبوة بنزول جبريل عليه السلام، وإنما نقصد بقولنا تلك المكاشفة والبصيرة التي يمن بها الله على عباده، وهو سبحانه وتعالى يؤتي الحكمة من يشاء، ويؤتي العلم من يشاء.

كنت صغيرا أجلس وسط عائلتي بعد صلاة الجمعة، نشاهد الشيخ الشعراوي يلقي خواطره حول القرآن، ومن ملامح تواضع الرجل أنه لم يدع لنفسه العلم، ولم يقل إنه مفسر للقرآن، بل قال إن القرآن لا يحتاج إلى تفسير، وإنما أوضح بأن ما يقوله هو خواطر حول الآيات تزيد من فهمها وتدبرها.

 الشيخ الشعراوي نلتمس الصدق في نبرة صوته عندما يتكلم، في زمن كثر فيه المدعون والمصطنعون، كانعليه رحمة الله يتكلم بفطرته التي اختلطت بحب العلم، فتجد نفسك في موضع ما تبكي ورعا، وفي موضع آخر تضحك لسماع طرفة يذكرها الشيخ، وفي الموضعين هو لم يبك ولم يضحك، ولكنه يتكلم بفطرة خالصة صافية، تمسح من قلبك كل دنس، وتزيل عنك آثار الحياة الموجعة.

مات الشيخ الشعراوي، ولكن ما قدمه ظل حيا بيننا، ومع كل حادثة يخرج علينا صوت الشعراوي يخبرنا بأن صدق العلم لا يموت، ففي أحداث 25 يناير رأينا صور الشيخ الشعراوي وكلماته تتلألأ بعبارات: "آفة الثائر من البشر أن الثائر يظل ثائرا، ولكن الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد"، وظلت تلك الكلمات تتردد على مسامعنا لتعلن أن العلماء يحيون بين الناس بعلمهم وإن غابت أجسادهم.

الشيخ الشعراوي وإن كان يتحدث بفطرته الممتزجة بالعلم والفهم وصدق الإيمان بالله، فإن فرحه في مصيبة النكسة لا يعني أنه فرح بها في حد ذاتها، فقد يفرح الأب بسماع خبر وفاة ابنه ويسجد لله شاكرا؛ لأنه علم أن ابنه مات شهيدا، وهذا لا يعني الفرح بفقدانه لولده، وإنما الفرح بما فضل الله به ابنه فجعله من الشهداء، فالشيخ الشعراوي أخبر أنه عندما سجد لله شكرا وفرح بسماع خبر النكسة في 67 وذكر أن ابنه قد انتقده لهذا التصرف، قال له "يا بني لن يتسع ظنك لما بيني وبين ربي"، فكيف ننصب من أنفسنا قضاة على نيات الخلق وهو أعلم بها، ففرح الشيخ بتنزيه الله للمصريين كي يقربهم إليه بالنكسة ويذكرهم بأن النصر سيتحقق بيقين "الله أكبر"، وهو ما جعله أيضا يسجد لله شكرا فرحا بنصر أكتوبر 73، فالكلمة كانت تزلزل الأرجاء في سيناء، ثم ذكر الشيخ بأنهم لو ثبتوا على الله أكبر ولم يردوا فضل الله في نصرنا لما انتهى النصر إلا إلى تل أبيب.

بعض القمم التي لا يمكن لعوام الناس مهما حصَّلت علمًا أن يصلوا إليها، لا يصبح الدفاع عنهم إلا زيادة فخر لمن يدافع عنهم وليس العكس، ومن تطاولت على الشيخ الشعراوي قد أخذت نصيبها من الرد والتوبيخ في اللحظة ذاتها على يد المحامي بالنقض عصام عجاج، لنتيقن قول الله عز وجل: {إن الله يدافع عن الذين آمنواإن الله لايحب كل خوان كفور}، وقد أجرى الله على لسان شخص المحامي أشد الألفاظ التي وجهها إلى من تطاولت، ليرد الفضل إلى أهله ويحفظ سيرة القمم التي لن ينال منها أحد إلا رجعت إليه بالتوبيخ والندامة والاحتقار.
رحم الله فضيلة الإمام محمد متولي الشعراوي، الذي علمنا صدق الانكسار لله وحسن اللجوء إليه في أصعب المواقف والشدائد، فكان يسامح كل من يخطئ في حقه، وكان يحتسب ذلك كله عند الله، لا ينتصر لنفسه وإنما ينتصر للحق ولدينه، اقتداء بمعلم البشر سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويعلم أن الله يتولى الدَّفْعَ عن الذين آمنوا، ويكفينا من قول الشيخ الشعراوي ما قاله بصوت باك منكسر: "الحق سبحانه وتعالى يطمئن المؤمنين أنه سيكون في جانبهم، فالله لن يرسل رسولا إلا وسينصر الحق على الباطل، ولينصرن الله من ينصره، ولكن لحكمة يعملها الله يؤخر الخير، ويعجِّل بالشر؛ ذلك لأن الشر ينزل بلطف من الله فيجعله دفعة واحدة حتى لا يظل الخوف من الشر دون وقوعه أمرا يقتل الإنسان بكثرة التخوف منه وتصور أنواعه، وقديما قالوا "وقوع البلا ولا انتظاره"، كأن يخبر الابن أبيه أنه قادم من السفر وسيصل في موعد محدد، فيظل الوالد ينتظر وينظر إلى الساعة وتنقطع أخبار ابنه ولم يأت، فتأخذه الأفكار والمخاوف، أما إذا علم الخبر ووقع الشر دفعة واحدة، فسوف يهدأ الأب مع لطف الله الذي ينزل مع الشر؛ أما الخير مهما طال انتظاره فيؤجله الله رحمة بالمؤمنين ليختبر صدقهم حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، فيبشرهم الله بأن النصر قريب، فالتعجيل بالشر لطف من الله وتأخير الخير رحمة من الله، وقال تعالى "ولو يعجل الله للناس الشراستعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذرالذين لايرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون".
الجريدة الرسمية