رئيس التحرير
عصام كامل

الحق، والأنا


إن أول لذة يحسّها الوليد أوّلَ ما يحس هى لذة الحقّ، أو التحقق – من الأشياء - عندما تبصرها عيناه لأول مرة، وتلمسها يداه، وينهل وجوده الصغير من الوجود الكلى الكبير، هذا الوجود الذى يتضح له يوماً بعد يوم أنه أكبر كثيراً مما كان يتصور، وإن كان تصوّره كبيراً مهولاً منذ البداية.


ثمّ – فى مرحلة لاحقة – يبدأ فى استصغاره رويداً حتى يختنق به وفيه، ربما لاتساع مداركه وخياله بما يكفى لأن يفطن إلى مدى صغر الوجود وضيقه – بالقياس إلى ما يمكنه أن يدرك أو يتخيل، وربما على العكس لانحسار إدراكه رغم اتساع مداركه وانحسار نفسه وقلبه فى ركن محدود من الوجود جعل منه الوجود كله.

سألت الناس: ماذا لو وددتم سواكم، وعلى البرّ اتّحدتم؟!

فردّوا: ما نرى فى الكون إلا رغيفاً، إن أكلتَ منه نُحرَم

ولا والله، إن الكون رحـــب ولكنْ نفسُكم ضاقت، فأزحم

ولولا ذا لما عُلِّم حــــــــرفٌ ولولا ذاك ماكنّا لِنطــــــــــعم

فكونوا واحداً نَدعم ونُدعَــم ولا تكونوا شرذماً، نُعدَم ونَعدَم

ما أقول أن الحق هو، بهذا التصوّر، وقد يمكن للقارئ بسهولة أن يتصوّره مثلى، هو بمثابة "قطفة" الحياة الأولى – إن صحّ التعبير، لأنه هو الصلة الأصلية الواصلة بين الموجود ووجوده، أو هو تجلى الوجود على صفحة وجدان الموجود، أو هو "شرارة الاحتكاك" الأولى بين الحىّ وما حوله من كائنات وكيانات.

فلماذا إذاً يحيد الإنسان عن الحق بعدُ؟! إلى أن يصل إلى مرحلة تتحول فيها حياته بأسرها – أو تكاد – إلى مسرحية كبيرة قائمة على الكذب والتمثيل، اللذين يصيران فى النهاية هما الحقيقة الواقعة، إذ أن الإنسان لا يعود بعدُ كاذباً ولا حتى كذاباً، بل الأصح أن يوصَف بأنه نسى الصدق، أو عجز عنه ولم يعد قادراً عليه، لقد صار عليه أن يصطنع الصدق اصطناعاً، ويتكلّفه تكلفاً، بينما الكذب صار الطبيعة فيه، والطبع لا التطبع.
الجريدة الرسمية