رئيس التحرير
عصام كامل

بالصور.. "30 دقيقة" في حضرة "مارسيل خليفة".. لم يزر "فلسطين" أبدًا.. ضيق الوقت يحاصره في القاهرة.. والكلمات لا تسعفه للمؤتمر.. الغناء حالة وجدانية يعرفها اللاجئون والشعراء

فيتو

لطالما نثر في قلوبنا رياحين الحب، وطلت صورته في مخيلتنا كعبير القمر، يبدو في حالة عمق مستمرة، تجعلك تذوب في محياه، وتبصر كوامن روحه في عينيه المغمضتين أثناء غنائه.


هو مارسيل خليفة، الذي غزل من قلوبنا ضفائر العشق، وافترش مع الدرويش (محمود درويش) قلوب العالمين، ليجلس ويتربع في عروش نفوسنا، فما أن تسمع ألحانه حتى تسافر في عالم أعمق مما نشهده.

لم أكن أتوقع في محادثتي الأولى مع مارسيل أنه سيجيب طلبي برؤيته، فقلت لنفسي إنه مطرب مشهور في كل العالم، وما أنا من دائرة معجبيه إلا شيء لا يذكر، ولكني فوجئت بروح متواضعة إلى حد أدهشني، حيث أجابني أنه سيزور مصر قريبًا، وسيتصل بي عند وصوله.

صادق الوعد
بقيت شهرين كاملين أتقلب على أحلام ورؤى ونغمات مارسيل يوميًا، إلى أن أعلنت كل من مكتبة الإسكندرية وشركة "صوت" عن استضافتها له في حفلين متتاليين في القاهرة والإسكندرية، ظلت روحي هائمة تتابع يوميًا الأخبار والجديد، حتى وصل "الخليفة" إلى القاهرة أمس.

أرسلت له رسالة حينها، أذكره فيها بوعده لي، ظننت في نفسي أنه لن يجيب من ضيق الوقت، وازدحام مواعيده وما إلى ذلك، قلت من المؤكد أنه نسى الوعد كله من الأساس.

لكنه لم ينس، فقد تذكرني ما إن حادثته وقال إنه سيتصل، حتى فوجئت باتصال منه صباح اليوم، صوت دافئ حنون ينبعث من الهاتف، دافئ حد الحلم والألحان.

طالبني بالحضور لمقابلته وللتعارف على المستوى الإنساني، فكنت كحمامة طالبها غصن الزيتون ببعض من سلامها، توجهت إلى الفندق وحادثته من البهو، فقال بنبرته الهادئة: "اطلعي ع الغرفة عم إستناكي".

617 كان هذا هو رقم الغرفة التي شاءت الأقدار أن يكون لقائي الأول بمارسيل في حضرة منها، طرقات بسيطة على باب الغرفة حتى ظهر "الخليفة".

روحه السماوية
رحب بي بحفاوة بالغة الرقي، شعره الأبيض الذي ينسدل على كتفيه يزيده من الرقي ما لم تطاله نفوس العامة، بدلة سوداء يزدهر فيها بياض محياه ونوره، و"تيشيرت" سماوي اللون ينطبق في لونه مع روحه السماوية، عيناه يسدلهما في براءه عفوية على جفنيه، في رمشة عين تهيئ له السماء والحياة لتكون على هيئته، الغرفة هادئة مرتبة، أغراضها تبدو على شاكلة مارسيل، وقد استمدت من روحه الشفافة قبسا، وقد أسند على الجدار عوده الخاص به، وبدا في أناقة ومهابة لا توصف.

جلس وأشار لي بالجلوس على مقربة منه، وقد استند بيمينه على حافة الأريكة، مطبقًا يداه على خده الأيمن، وبدأ حديثه بتحية راقية، ثم سألني: أنتِ فلسطينية ! قلت: نعم لاجئة فلسطينية، ولدت هنا بالقاهرة، فأردف قائلًا: إن إلحاحي في طلبي رؤيته هو ما أثار حفيظته، فرغم انشغاله الدائم وازدحام الحياة من حوله الذي يدفعه مرات إلى الهرب من الزحام والاختلاء بنفسه، فإنه يلاحظ ويشعر بالأشخاص ذوي الأحلام والتطلعات، ويحترم المثابرة، لذا قبل بطلبي رؤيته.

فلسطين
شكرته على تلبية هذه الدعوة وعلى لفتته الكريمة، فتابع كلامه عن تلك البلاد البعيدة القريبة، فلسطين، قال إنه لم يدخل فلسطين من قبل، فالإجراءات صعبة وزيارتها شبه مستحيلة ولو لبعض دقائق معلقًا: "كيف بدي أمر من الحدود اللي ع طول الطريق وبكل مكان في فلسطين"، كان يحكي عن فلسطين التي طالما تغنى بها وشدى في حبها أعظم وأجَّل ألحانه وأغانيه وهو شارد العين، وكأن عيناه تبصران القدس العتيقة وتعانق حجارتها.

ضيق وقته
صمت قليلًا، ثم قال إن اليوم هو يوم ضيق كثيرًا، حيث لديه لقاءان مع قنوات تليفزيونية، وأنه يحاول تحضير كلمة يلقيها على الحضور في مؤتمر الغد في "الأهرام"، ولكنه لا يطيق الكتابة الآن، فرأسه مشوش من ضيق الوقت وسرعة الأحداث، ولا يملك إلا أن يتحامل على نفسه ويكتب ويحضر نفسه لأحداث الغد وبعد غد.

سقوط القمر
وقد قطع كلامه بإلتفافة لي سائلا إياي: "عندك أسطوانة سقوط القمر؟"، قلت: نعم أملكها كاملة، فقال إنه كان سيهديني واحدة ! تمنيت حينها لو أني لم أقل إنني أملك واحدة، لأحتفظ بهذه الأسطوانة منه.

وحين طالبته بالغناء، قال لي: لا أستطيع الغناء الآن وأنا في هذه الحالة، فالغناء حالة شعرية وموسيقية لابد أن أكون داخلها، تعرفين أني مختلف كليا عن الأغلبية، فلا أحب أن أصطنع حالة للغناء فأبده صناعيًا، أنا أحب الطبيعة والتواضع، والغناء حالة وجدانية عميقة، من المؤكد أنك تفهمين هذا، فالفلسطينيون، خاصة اللاجئين منهم، يعرفون معنى الوجد والعمق والحنين، لذا أعرف أنك تشعرين بما أقول وتتفهمينه، قائلًا: "المرة الجاية بتعزميني ببيتكم، وباجي أغنيلك"، خاتمًا جملته بابتسامة هادئة تبعث في النفس طمأنينة.

لم أضغط عليه في طلبي، لأني بالفعل أتفهم نفسية وروح مارسيل، فروح البراءة والعفوية التي يمتلكها لابد لها من حالات وإحداثيات خاصة لتنسجم في عالم موسيقى وروحاني.

نظرت إلى ساعتي لأجد أن 30 دقيقة مرت في لمحة بصر، لم أحسب يومًا أن الوقت يمكن أن يمر سريعًا إلى هذا الحد، ورغم أن روحي تتوق إلى قضاء ساعات معه، فإننى أعرف قدر مشاغله وضيق وقته، فاستأذنت منه، للرحيل.
 
30 دقيقة كانت كافية لبث روح مارسيل داخلي، ولاقتطاف زهرة من بستان قلبه، زرعها في أوردتي.
الجريدة الرسمية