رئيس التحرير
عصام كامل

في ذكرى 23 يوليو.. «ناصر» و«روزاليوسف».. بينهما «حرية الصحافة».. والتوازن بين «حديد القيود» و«حرير الرقابة»

الراحل جمال عبد الناصر
الراحل جمال عبد الناصر رئيس مصر السابق
«حرية الرأي».. واحد من الموضوعات الشائكة التي ارتبطت لسنوات طويلة بـ«ثورة يوليو»، وتحديدًا فيما يتعلق بـ«رأي الصحافة»، فأبناء المهنة كانوا يرسلون الرسالة تلو الأخرى إلى «الضباط الأحرار» بأنهم يقفون معهم في خندق واحد، لا سيما وأن عدد من «ضباط يوليو» كان يتمتع بصلات وعلاقات جيدة مع مجموعة من الأسماء الصحفية اللامعة «أيام الملكية».


وعلى رأسهم البكباشي جمال عبد الناصر، الذي أصبح رئيسا لمصر بعد تنحي «نجيب»، والذي تشير غالبية آراء الصحفيين الذين عاصروا هذه المرحلة، إلى أن «ناصر» قبل قيام 23 يوليو، كان يولي «صاحبة الجلالة» ورموزها اهتمامًا من نوع خاص.

لكن ما الذي حدث بعد ذلك وأدى إلى ما يمكن وصفه بـ«العداء المستتر» بين «ناصر والصحفيين»، لا أحد يدرك تفاصيله الحقيقية، لا سيما وأن وجهات نظر مختلفة خرجت لـ«تبرير الأمر».

ناصر وروزاليوسف
وبين كل ما قيل وأثير حول علاقة «ناصر» و«الصحفيين»، يبقي الخطاب المفتوح الذي كتبته ونشرته السيدة فاطمة اليوسف (روزاليوسف) موجهة حديثها إلى جمال عبد الناصر، واحدًا من أبرز الخطابات التي تشير إلى الدور الذي كانت تلعبه الصحافة في سنوات الثورة الأولى، حيث نشرت «روزاليوسف» في 11 مايو 1953، خطابًا موجهًا إلى «ناصر» تحدثت خلاله عن الحريات، والمعونة التي يجب أن يطلبها «الضباط الأحرار» وهو على رأسهم، من الصحافة والصحفيين، كما أكدت على أهمية أن يصغي «ناصر» وزملائه إلى أصحاب الخبرة ولا يكتفون بـ«رجال الثقة» في إدارة الحكم.

وقالت «روزاليوسف» في خطابها: «تحية أزكي بها شبابك الذي عرضته للخطر، وجهدك الذي تنفقه من أجل هذا الوطن، تحية من سيدة عاصرت الحوادث واعتصرتها التجارب.. أنفقت عمرها تتأمل الوجوه القديمة حتى كفرت بكل وجه يحمل ملامح القدم، فلا يسعدها اليوم شيء كما يسعدها أن ترى الوجوه الجديدة تزحف، وتنال فرصتها الكافية لتحاول أن تسير بهذا الوطن بأسرع مما كان يسير.

إنني أعرف الكثير عن ساعاتك التي تنفقها عملًا بلا راحة، ولياليك التي تقطعها سهرًا بلا نوم.. وتدقيقك البالغ في كل أمر بغية أن تصل فيه إلى وجه الصواب، ولكنك - وحدك - لن تستطيع كل شيء، ولا بالمعونة الخالصة من إخوانك، وأصدقائك، وكل الذين تعرفهم وتثق بهم، فلا بد من معونة الذين لا تعرفهم أيضا، الذين يعيشون في جو غير جوك، ويتأثرون بعوامل غير التي تؤثر في أصدقائك، ويمرون بتجارب كثيرة متنوعة لا يمكن أن يمر بها واحد من الناس، ولا عشرة، ولا ألف!

إنك باختصار - في حاجة إلى الخلاف.. تمامًا كحاجتك إلى الاتحاد، إن كل مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معًا، ولا يستغني بأحدهما عن الآخر، الاتحاد للغايات البعيدة والمعاني الكبيرة والخلاف للوسائل والتفاصيل، انظر إلى الأسرة الواحدة في البيت الواحد، قد تراها متماسكة متحابة متضامنة.. ولكن كل فرد فيها يفضل نوعًا من الطعام، ويتجه إلى طراز من العمل، ويروق له لون من الثياب، ثم انظر إلى أسرة الوطن الكبير - أي وطن كبير - تجد هذا التباين والخلاف موجودًا بينهم في أدق دقائق الحياة، وفي طريق تذوق الحياة ذاتها.

وأنت تؤمن بهذا كله لا شك في ذلك، وقد قرأت لك غير بعيد حديثًا تطالب فيه بالنقد، وبالآراء الحرة والنزيهة ولو خالفتك. ولكن.. أتعتقد أن الرأي يمكن أن يكون حرًا حقًا وعلى الفكر قيود؟ وإذا فرض وترفقت الرقابة بالناس، واستبدلت حديدها بحرير، فكيف يتخلص صاحب الرأي من تأثيرها المعنوي؟ يكفي أن توجد القيود كمبدأ ليتحسس كل واحد يديه.. يكفي أن يشم المفكر رائحة الرقابة.. وأن يري بعض الموضوعات مصونة لا تمس، ليتكبل فكره، وتتردد يده، ويصبح أسيرًا بلا قضبان.

وقد قرأت لك أيضا - أو لبعض زملائك- أنكم تبحثون عن كفايات، وأنكم تريدون طرازًا غير المنافقين الموافقين ولكن.. كيف يبرز صاحب الكفاية كفايته؟ أليس ذلك بأن يعبر عن نفسه.. يعبر عنها بصراحة ودون تحوي؟ إن مجرد شعور صاحب الكفاية مخطئا أو مصيبا - بأن هناك شيئا مطلوبا وشيئا غير مطلوب يجعله إما أن يبعد بنفسه خشية ألا يوافق المطلوب، وإما أن يقترب بعد أن يهيئ نفسه ليتلاءم مع ما يعتقد أنه مطلوب، فتضيع الفائدة منه في كلتا الحالتين.

أترى.. إلى أي حد تفسد هذه القيود الجو؟ أرى إلى هذا الستار الكثيف الذي تقيمه بين الحاكم وبين ضمائر الناس؟.. إن الناس لا بد أن يختلفوا لأن مختلفون خلقًا ووضعًا وطبعًا. وقد دعت الظروف إلى إلغاء الأحزاب، وإلى تعطيل الكثير من وسائل إبداء الرأي.

وقد أصبح للعهد الجديد شعار واحد وألوان واحدة، فلم يبق شيء يمكن أن يتنفس فيه النقد وتتجاوب فيه وجهات االنظر غير الصحف وأسنة الأقلام، وتفكير المواطنين.

على أني أعرف الدوافع لإبقاء هذه القيوم، أنت تخاف أنياب الأفاعي وفئران كل سفينة.. أنت تخاف من إباحة الحريات أن يستفيد منها الملوثون المغرضون.. ولكن صدقني أن هذا النوع من الناس لا يكون لهم خطر إلا في ظل الرقابة وتقييد الحريات.. إن الحرية لا يستفيد منها أبدًا إلا الأحرار والنور لا يفزع إلا الخفافيش.. أما الهمسات في الظلام، والبسمات التي يبطنها النفاق والمدائح التي يمتزج بها السم الزعاف.. فلا شيء يبطل مفعولها إلا النور والهواء الطلق والرأي العام النابه الحريص.

ولا تصدق ما يقال من أن الحرية شيء يباح في وقت ولا يباح في وقت آخر، فإنها الرئة الوحيدة التي يتنفس بها المجتمع، والإنسان لا يتنفس في وقت دون آخر.. إنه يتنفس حين يأكل، وحين ينام، وحين يحارب أيضا.

إنك بكل تأكيد تضيق ذرعًا بصحف الصباح حين تطالعها فتجد أنها تكاد تكون طبعة واحدة لا تختلف إلا في العناوين، حتى بعض حوادث الأقاليم المحلية يصدر بها أحيانا بلاغ رسمي واحد.. الناس كلهم يحسون ذلك ولا يرتاحون إليه.. وقد قلت مرة إنك ترحب بأن تتصل بك أي جريدة إذا أحست الضيق.. ولكن.. أليس في هذا ظلم لك، وللصحف، وللقضايا الكبرى التي تسهر عليها؟.. ألم أقل إنك لن تستطيع وحدك كل شيء؟.

لقد أقدمت - في شبابك الباكر- على تجارب هائلة.. خضت بعضها ورأسك على كفك لا تبالي مصيره، وليس كثيرًا أن تجرب إطلاق الحريات.. إن التجربة كلها لا تحتاج إلا إلى الثقة في المصرية.. وأنت أول من يجب عليه الثقة في مواطنيه

«فاطمة اليوسف»

رد ناصر
يوم واحد كان كافيًا لـ«ناصر» لأن يقدم الرد على «خطاب روزاليوسف» السيدة التي كانت قد أكملت عامها الـ 27 في بلاط صاحبة الجلالة، والـ 55 في الحياة، ولم يكن «ناصر» قد قفز بعد عتبة عامه الـ 35، وقال «ناصر»:

«أما تحيتك فإنى أشكرك عليها، وأما تجربتك فإنى واثق أنها تستند على درس الحياة، وأما تقديرك لما أبذله من جهد فإنى أشعر بالعرفان لإحساسك به، وأما رأيك فى أنى لاأستطيع أن أفعل وحدى كل شىء، فإن هذا رأيى أيضا ورأى كل زملائى من الضباط الأحرار الذين قامت حركتنا على تنظيم كامل عاشت فيه الفكرة وتوارت الأشخاص، وقام كل فرد فى ناحيته بأقصى ما يستطيع من جهد.

وأما إنى فى حاجة إلى كل رأى فقد أعلنت هذا ولن أمل من تكرار إعلانه ليس من أجلى وإنما من أجل مصر، وأما حاجتنا إلى الخلاف فى التفاصيل قدر حاجتنا إلى الاتحاد فى الغايات فأنا مؤمن به، واثق أنه من أسس الحرية الصميمة بل من أسس النظام أيضا.

وأنا أكره بطبعى كل قيد على الحرية وأمقت بإحساسى كل حد على الفكر، على أن تكون الحرية للبناء وليس للهدم، وعلى أن يكون الفكر خالصا لله وللوطن.

ودعيني ألجأ إلى تجربتك كي تبقى الحرية للبناء ويبقى الفكر لله والوطن.. لا تخرج بهما شهوات وأغراض ومطامع عن هذه المثل إلى انقلاب مدمر يصب فى مصالح الوطن المقدس بأبلغ الأضرار.

لقد قلت أنت بنفسك إنك تعلمين أنى أخشى على موقف البلاد الصلب من إطلاق الحريات خشية أن يندس بين أمواجها دعاة الهزيمة والتفكك، لقد عبرت بهذا عن جزء مما أشعر.. واسمحى لى أن أضيف عليه شيئا آخر.. هوأننى لا أخشى من إطلاق الحريات وإنما أخشى أن تصبح هذه الحريات كما كانت قبل 23 يوليو سلعا تباع وتشترى.

ونحن لا نريد أن يشترى الحرية غيرنا، ومن يدرى فقد يكون بينهم أعداء للوطن يفرقون هذا الشعب الطيب الوديع الذى استغلت طيبته، واستغلت وداعته، واستغل قلبه المفتوح وغرر به دونما أساس سليم، يصون همنا لتضليل- بما لا يجب- أن يفرق فيه فى هذه الظروف العصيبة التى تمر بالوطن.. ومع ذلك فأين هي الحرية التي قيدناها؟

أنت تعلمين أن النقد مباح، وأننا نطلب التوجيه والإرشاد، ونلح فى الطلب بل إننا نرحب بالهجوم حتى علينا إذا كان يقصد منه إلى صالح الوطن وإلى بناء مستقبله و ليس إلى الهدم والتخريب ومجرد الإثارة، ذلك لأننى أعتقد أنه ليس بيننا من هو فوق مستوى النقد أو من هو منزه عن الخطأ، وبعد فإنى أملك أن أضع رأسي على كفى ولكنني لا أملك أن أضع مصالح الوطن ومقدساته هذا الوضع».

جمال عبد الناصر
الجريدة الرسمية