رئيس التحرير
عصام كامل

حكم الشرع في ظاهرة صلاة الفريضة جماعة بالمسجد على الكرسي

صلاة الجماعة على
صلاة الجماعة على الكرسي
ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه " حكم الشرع في ظاهرة صلاة الفريضة جماعة في المسجد على الكرسي؟"، وجاء رد الدار كالتالي: 


القيام ركنٌ في صلاة الفريضة لمن يقدر عليه؛ لقوله تعالى: ﴿وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238]. فإذا لم يستطع المصلي القيامَ أو شقَّ عليه مشقَّةً شديدةً جاز له الصلاة قاعدًا، وكذلك الحال في حقِّ الصحيح في صلاة النافلة مع نقص أجرها بالنسبة له، وسواءٌ جلس القاعد على الأرض أم جلس على شيء مرتفع عنها، فكل ذلك جائزٌ له شرعًا؛ إذْ إنَّ الشرعَ الشريف لم يفرِّق في هذا المقام بين الجلوس على الأرض والجلوسِ على شيءٍ مرتفعٍ عنها، والقعودُ في الصلاة لمن يُرَخَّصُ له فيه يستوي فيه الأمرانِ، ولم يَقُل بالتفريق بينهما أحدٌ من علماء المسلمين على مرِّ العصور والدهور.


والحديث المبيح للصلاة حال القعود -لمن له عذرٌ مطلقًا، أو لمن ليس له عذرٌ في صلاة النافلة- هو حديثٌ صحيح، أخرجه البخاري في "صحيحه" عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».

فإباحة القعود للمُصَلِّي جاءت مطلقةً في الحديث النبوي الشريف، والمطلق يحتمل كل الأحوال والهيئات، فلا يجوز تخصيصه بحالٍ دون حال إلا بدليلٍ شرعيٍّ، والقعودُ في اللغة يكون عن قيام، وليس من ماهيته أن يكون على الأرض؛ قال العلامة اللغوي أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في معجم "مقاييس اللغة" (مادة: جلس): [إِذَا كَانَ قَائِمًا كَانَتِ الْحَالُ الَّتِي تُخَالِفُهَا الْقُعُودَ] اهـ.

ولفظ القَعود يستخدم وضعًا في لغة العرب اسمًا للمركوب عليه من الإبل على وجه التعيين، والجِلْسة عليه لا تختلف في هيئتها عن جِلْسة الكرسي؛ قال العلامة الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب العين (مادة: قعد): [والقُعْدَةُ: ما يَقْتَعِدُهُ الرجُلُ من الدَّوابِّ للرُّكُوِبِ خاصة. والقَعُود والقَعُودَةُ من الإبلِ: ما يَقْتَعِدُها الراعي فَيْركَبُها ويَحْمِلُ عليها زاده. ويُجْمَعُ على القِعْدانِ] اهـ.

ولقد أباح الشرع الشريف الصلاة بالقعود على الراحلة في نفس موضع إباحة صلاة القاعد، وهو التنفُّل مطلقًا، فهذا قعودٌ وهذا قعود، ولا فرق بينهما؛ فقد أخرج البخاري في "صحيحه" عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ".

وأخرج عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ".

وأخرج عن عَامِر بْن رَبِيعَةَ رضي الله عنه قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُسَبِّحُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ".

وأخرج مسلم في "صحيحه" عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ".

ونقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 574، ط. دار المعرفة) قول ابن التين: [قوله: "حيث توجهت به" مفهومُه أنه يجلس عليها على هيئته التي يركبها عليها، ويستقبل بوجهه ما استقبلته الراحلة] اهـ.

وقال العلامة بدر الدين العيني في "شرح سنن أبي داود" (5/ 92-93، ط. مكتبة الرشد): [وقال صاحب "المحيط": الصلاة على الراحلة أنواعٌ ثلاثة: فريضة، وواجب، وتطوُّع، أما الفرض لا يجوز على الدابة إلا من ضرورة، وهو تعذُّر النزول لخوف زيادة مرض، أو خوف العدو والسبع، فيجوز أن يصلي على الراحلة خارج المصر إيماءً، ويجعل السجود أخفضَ من الركوع

وكذلك الصلاة الواجبة؛ كصلاة الجنازة، والتطوُّع الذي وجب قضاؤه بالإفساد، وكالوتر عند أبي حنيفة، وكذلك الصلاة المنذورة، ... وأما التطوع فيجوز على الدابة خارج المصر مسافرًا كان أو مقيمًا، يومئ حيثما توجهت الدابة، ولا يمنعه نجاسة السرج والركابين، ونجاسة الدابة مطلقًا، وأما المصر فلا يجوز فيه عند أبي حنيفة، وعند محمد يجوز ويكره، وعند أبي يوسف يجوز ولا يكره، وبه قال أبو سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي، وهو محكيٌّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه] اهـ.

والهيئة التي يتحقق بها القعود هي قيام النصف الأعلى من الإنسان، فإن الفرق بين القيام والقعود في الصلاة أن القيام المطلق إنما يكون باستواء الشق الأعلى والأسفل، والشق الأعلى أصل؛ لأن الآدمي لا يعيش إلا به، والشق الأسفل تبع؛ لأنه يعيش بدونه، ولذا تكون صلاة التطوع مشروعةً عند قيام النصف الأعلى فقط وهو هيئة القعود، فإذا صلى الشخص قاعدًا فقد صلى؛ لتحقُّق قيام النصف الأعلى -كما في الصلاة على الراحلة- وهو الشرط، فأجزأه.

صرَّح بهذا الفرق العلامة أبو المعالي برهان الدين البخاري الحنفي في "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" (1/ 296، ط. دار الكتب العلمية) وهو يذكر وجه مشروعية تكبيرة الإحرام للمصلي قاعدًا حال قعوده، مع أن الأصل فيها اشتراطُ القيام لها. ولقد فهم العلماء هذا المعنى بداهةً؛ فإن وصف القعود صدق على المصلي القاعد على الراحلة كما صدق على المصلي القاعد على الأرض، وهو يصدق على المصلي القاعد على الكرسي.

ولذلك فإن كبار فقهاء المذاهب المتبوعة نصُّوا على إباحة القعود في الصلاة في مواضعه على أيِّة هيئةٍ كانت، ما دام قد تحقق القعود في أصله، وهو مذهب السادة الحنفية، وعلَّلوا ذلك بأنه لما جاز للمُصَلِّي تركُ أصل القيام فترك صفة القعود أولى، وبأن العذر يُسقط عنه الأركان، فلأن تسقط عنه الهيئات أولى.

قال العلامة شمس الأئمة السرخسي الحنفي في "المبسوط" (1/ 210، ط. دار المعرفة): [والمصلي قاعدًا تطوعًا أو فريضةً بعذر يتربع ويقعد كيف شاء من غير كراهة؛ إن شاء محتبيًا، وإن شاء متربعًا؛ لأنه لما جاز له تَرْكُ أصل القيام فَتَرْكُ صفة القعود أولى] اهـ.

وقال العلامة بدر الدين العيني الحنفي في "البناية شرح الهداية" (2/ 637، ط. دار الكتب العلمية): [قلت: قال صاحب "الدراية" و"التحفة": اختلفت الروايات عن أصحابنا في أنه كيف يقعد، فروى محمد عن أبي حنيفة أنه يجلس كيفما شاء، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا افتتح الصلاة يتربع، وإذا ركع يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها، وعن أبي يوسف أنه يتربع في جميع صلاته، وعن زفر رَحِمَهُ اللَّهُ أنه يفترش رجله اليسرى في جميع صلواته، والصحيح رواية محمد؛ لأن عذر المرض يسقط عنه الأركان، فلأن تسقط عنه الهيئات أولى] اهـ.

وقال الشيخ شهاب الدين الشِّلبي في "حاشيته على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" (1/ 176، ط. المطبعة الكبرى الأميرية، بولاق): [ووجه مَن قال يجلس كيف شاء؛ لأنه لما سقط القيام سقطت هيئته] اهـ.

وقرَّر ذلك الحافظ ابن حجر في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" (2/ 586، ط. دار المعرفة) ونسبه إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه، فقال: [لم يبين كيفية القعود، فيؤخذ من إطلاقه جوازُه على أي صفة شاء المصلي، وهو قضية كلام الشافعي في "البويطي"] اهـ.

وقال الإمام أبو زكريا محيي الدين النووي الشافعي في "شرح صحيح مسلم" (6/ 15، ط. دار إحياء التراث العربي): [وكيف قعد جاز، لكن الخلاف في الأفضل] اهـ.

وعدم ثبوت استعمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكرسي أثناء الصلاة في مرضه ليس دليلًا على حرمة استعماله في هذا الموضع؛ لأن الترك المطلق لم يكن أبدًا دليلًا على الحرمة؛ إذ الدليل باقٍ على إطلاقه كما تقدَّم، وليس فعلُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإحدى هيئات المطلق أو بعض أفراد العامِّ بمقيِّد للمطلق أو بمخصِّص للعامِّ، والحرمةُ تحتاج إلى دليلٍ شرعيٍّ يُثْبِتُها، وكم من شيءٍ تَرَكَه رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مباحٌ في أصله، وإنما كانوا قديمًا يُصَلُّون قعودًا على الأرض؛ لاعتيادهم ذلك

ولأنه الهيئة الرافعة لمشقة القيام عندهم المريحة لأجسادهم، فطبقوا الرخصة على ما اعتادوه من الجلوس، وكما لم تكن هيئة الجلوس على الراحلة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة النافلة تخصيصًا لهيئات الجلوس الجائزة، فكذلك لا يكون جلوسُه على الأرض مانعًا من الجلوس على الكرسي، كما أن القعود على الراحلة يشبه في هيئتِه القعودَ على الكرسي.

وأما ما ذُكِر في السؤال مِن تعليل تحريم الصلاة على الكرسي بأنها تمنع من السجود على الأرض الذي يجب على المُصَلِّي ولا يسقط عنه، فهو تعليلٌ عليلٌ؛ لأن الصلاة على الكرسي لا تعني عدم السجود؛ فهما غير متلازمين؛ إذ يمكن للمصلي قاعدًا على الكرسي أن يسجد على الأرض كما يمكن ذلك للمصلي جالسًا على الأرض، وقد تقرَّر في قواعد الفقه أن "الميسور لا يسقط بالمعسور"؛ فمن استطاع أداء الركن على هيئته العليا المفروضة لم يكن له أن يعدل عنها إلى هيئة أقلَّ منها؛ فإذا لم يستطع الإنسان أن يسجد على الأرض فله أن يومئ بدلًا من السجود، سواءٌ في ذلك جلوسُه على الأرض وعلى الكرسي

أمَّا من كان جلوسُه على الكرسي يمنعه من السجود الذي كان يستطيعه لو جلس على الأرض، فإنه يجب عليه حينئذٍ أن يصلي جالسًا على الأرض لإتمام هيئة السجود، وصلاته على الكرسي حينئذٍ حرامٌ، فإن كان جلوسه على الأرض يؤذيه ويضره فلا حرج عليه شرعًا أن يومئ للركوع والسجود وهو جالسٌ على الكرسي؛ فالأصل في الشريعة الغرَّاء رفعُ الحرج عن المكلَّفين، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾ [البقرة: 286].

وقد أخرج البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 434، ط. دار الكتب العلمية) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَادَ مَرِيضًا، فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ، فَأَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا، فَأَخَذَ عُودًا لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ فَرَمَى بِهِ، وَقَالَ: «صَلِّ عَلَى الْأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، وَإِلَّا فَأَوْمِ إِيمَاءً وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ»، وفي رواية: «صَلِّ بِالْأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ».

وأخرج في موضعٍ آخر (2/ 435) عن عَبْد اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه كان يقول: "إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرِيضُ السُّجُودَ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً، وَلَمْ يَرْفَعْ إِلَى جَبْهَتِهِ شَيْئًا".
قال الإمام الصنعاني في "سبل السلام" (1/ 300، ط. دار الحديث): [الحديث دليلٌ على أنه لا يتخذ المريض ما يسجد عليه حيث تعذَّر سجوده على الأرض، وقد أرشده إلى أنه يفصل بين ركوعه وسجوده، ويجعل سجوده أخفضَ من ركوعه

فإن تعذَّر عليه القيامُ والركوعُ فإنه يومئُ من قعود لهما جاعلًا الإيماءَ بالسجود أخفضَ من الركوع، أو لم يتعذَّر عليه القيام، فإنه يومئ للركوع من قيام، ثم يقعد ويومئ للسجود من قعود، وقيل في هذه الصورة يومئ لهما من قيام يقعد للتشهد، وقيل يومئ لهما كليهما من القعود، ويقوم للقراءة، وقيل: يسقط عنه القيام ويصلي قاعدًا، فإن صلَّى قائمًا جاز، وإن تعذَّر عليه القعود أومأ لهما من قيام] اهـ.

وروى الإمام محمد بن الحسن في "موطئه" كما في "التعليق الممجد على موطأ محمد" (2/ 40، ط. دار القلم) عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: [إِذَا لَمْ يستطع المريض السجود أومى برأسه. قال محمد: وبهذا نأخذ، ولا ينبغي له أن يسجد على عود ولا شيء يرفع إليه، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله] اهـ.


والقاعدة في صلاة الفريضة أنه يُؤتَى فيها بالهيئة المأمور بها شرعًا حتى وإن اشتملت على مشقة محتملة، فإن كانت المشقة غيرَ محتملةٍ فإنه يُؤتَى بالهيئة الأدنى منها، وذلك في كل ركنٍ من أركان الصلاة.


قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" (1/ 100، ط. دار المعرفة): [وكل حال أمرتُه فيها أن يصلي كما يطيق فإذا أصابها ببعض المشقة المحتملة لم يكن له أن يصلي إلا كما فرض الله عليه، إذا أطاق القيام ببعض المشقة قام فأتى ببعض ما عليه في القيام من قراءة أم القرآن، وأُحِبُّ أن يزيد معها شيئًا، وإنما آمُرُه بالقعود إذا كانت المشقة عليه غيرَ محتملةٍ، أو كان لا يقدر على القيام بحال، وهكذا هذا في الركوع والسجود لا يختلف] اهـ.

والمشقة المحتملة هي ما يستطيع معه المكلَّف أن يؤدِّي صلاة الفريضة محافظًا على المقصود منها، وهو الخشوع، صرَّح بذلك الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (4/ 310، ط. دار الفكر) فقال: [قال أصحابنا: ولا يشترط في العجز أن لا يتأتى القيام، ولا يكفي أدنى مشقة، بل المعتبَرُ المشقةُ الظاهرةُ، فإذا خاف مشقةً شديدةً أو زيادةَ مرضٍ أو نحو ذلك أو خاف راكبُ السفينةِ الغرقَ أو دورانَ الرأس صلى قاعدًا ولا إعادة، وقال إمام الحرمين في باب التيمم: الذي أراه في ضبط العجز أن يلحقه بالقيام مشقةٌ تُذهب خشوعَه؛ لأن الخشوع مقصود الصلاة] اهـ. وعند فَقْدِ هذه الاستطاعة في الهيئة العليا فإن المكلف ينتقل إلى الهيئة الأدنى منها مباشرةً؛ ليتحقق أجر أداء الفرض كاملًا في حقه من غير أن ينقص منه شيء.

على أن المتطوع بالصلاة قاعدًا بلا عذر له من الأجر نصفُ مَا للقائم، فلقد أخرج البخاري عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما -وَكَانَ مَبْسُورًا- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا، فَقَالَ: «إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَاعِدِ».

وأخرج ضياء الدين المقدسي في "المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما" (7/ 196، ط. دار خضر) عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مَحَمَّةٌ فَحُمَّ النَّاسُ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ قُعُودًا فَقَالَ: «صَلَاةُ الْقَاعِدِ نِصْفُ صَلَاةِ الْقَائِمِ» فَتَجَشَّمَ النَّاسُ للصَّلَاة قيَامًا.

قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (6/ 15): [وإن صلى الفرض قاعدًا لعجزه عن القيام، أو مضطجعًا لعجزه عن القيام والقعود، فثوابُه كثوابه قائمًا لم ينقص باتفاق أصحابنا، فيتعين حمل الحديث في تنصيف الثواب على مَن صلى النفل قاعدًا مع قدرته على القيام. هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال الجمهور في تفسير هذا الحديث، وحكاه القاضي عياض عن جماعة منهم الثوري وابن الماجشون] اهـ.

وبناءً على ما سبق: فإن الصلاة بالقعود على الكرسي لها نفس أحكام الصلاة بالقعود على الأرض بلا فرق؛ حيث لم يأتِ في الشرع تخصيصٌ للقعود بكونه على الأرض، ولا جاء هذا عن أحدٍ من علماء المسلمين، وليس في الشرع ما يتعارض معه، وتضييقُ الواسع ابتداعٌ في الشرع ما أنزل الله به من سلطان.

وعلى من ابتُلي بهذا أن يبذل الوُسع في الأكمل لصلاته، وأن يراعيَ ما يستطيع أداءه من هيئتي الركوع والسجود على ما ذكرنا؛ بحيث إن الصلاة على الكرسي تحرم عليه إن كانت تمنعه من السجود الذي يستطيعه إذا جلس على الأرض، كما ينبغي أن يُراعَى في ذلك استواءُ الصفوف بحيث يُجعَل لأصحاب الكراسي صفٌّ مستقل أو مواضعُ محددةٌ على طرفي الصف، وأن يكون حجم الكراسيِّ متناسبًا مع مساحة المسجد والمسافة بين الصفوف، مما لا يضيِّق على المصلين صلاتهم.
الجريدة الرسمية