رئيس التحرير
عصام كامل

"بشير عيَّــاد" يتراجعُ عن الإشادة برجالِ ‏الشرطة ليصرخَ فيهم:‏ خذلتمونا ‏ وأهنْـتُم كرامتنا أمامَ العالم

فيتو
18 حجم الخط

كنتُ ألملمُ شتاتَ كلماتى لأشيدَ بهم، وأستميت فى الدفاع عنهم ‏وألتمس من إخوانى المواطنين الصادقين الأوفياء لترابِ هذه ‏الأرض الطيّبة، أن يمدّوا جسور الثقة والمودة بينهم مرة أخرى، ‏ليساعدوهم على استرداد أنفسهم من غياهب اليأس والإحباط ‏بعد أن شعروا بتضاؤل حجمهم فى الشارع، وفى أعين مواطنيهم، ‏‏ إلى درجة الاحتقار والشماتة، خصوصا بعد المظهر المشرّف، ‏شكلا ومضمونا، لقوّاتنا المسلحة بعد نزولها إلى الشوارع ‏والميادين منذ مساء الجمعة 28 يناير 2011م (جمعة الغضب‏‏)، فبرغم الكوارث والمصائب والمجازر والأيّام السوداء التى ‏عشناها بعد جلاء المخلوع ونظامه البليد، تلك الأيّام التى يُسألُ ‏عن مساوئها وبلاويها المجلس العسكرى (بصفته الإدارية ‏والسياسيّة)، إلا إنّ الجيش، فى مضمونه ومعناه العام، يبقى ‏بعيدًا شريفًا مصونا مرفوعًا فوق الرؤوس لا يمسسه غبار أو ‏تشويه أو تلويث، ويبقى ما فعله جيشنا العظيمُ لثورتنا ‏المسروقة صفحةً خالدة فى كتاب أيّامنا، إنّه الجيش النبيل، كما ‏وصفه زعيمنا الخالد أحمد رامى، فى قصيدته الممتدة فى الزمان ‏والمكان"صوت الوطن"؛ ( مصرُ التى فى خاطرى).‏


كنتُ أودّ أن أخاطب كلّ المصريين وأدقّ أبوابهم فردًا فردًا ‏و"أبوس" رؤوسهم من أجل أن يصفحوا عن رجال الداخلية، ‏الشرطة المصريّة، لأؤكد لهم أجمعين أنهم أبناء هذا الوطن مثل ‏أى فصيل آخر، كبُر أو صغُر، هم بشرٌ مثلنا، لهم حسناتهم ولهم ‏سيئاتهم، فيهم الصالحون والأبطال الأوفياء، وفيهم المعطوبون ‏الذين يشوّهون الصورة ويمنحونها ما تيسّر من البقع والكدمات ‏أو العاهات المزمنة التى لا تنمحى بالتقادم ولا يدوسها قطارُ ‏النسيان.‏

كنت أصر على أن أجاهر بأعلى صوتى: مَن كان منكم بلا ‏خطيئة فليرمهم بحجر!، ومَن يستطع أن يأتينى بقطاع من ‏المجتمع ليس به بثور وتشوّهاتٌ وعاهات مزمنة فمسموح له ‏بهجاء الداخلية ورجالها وتصرفاتهم وعنجهيتهم وتكبّرهم ‏وجبروتهم.

كنت أُحصى أخطاء الرموز التى يبجلها المواطنون، بادئا برجالِ ‏الدين، المثل والقدوة ودعاة الأخلاق والفضائل، أولئك الذين ‏تحوّل معظمهم الآن إلى تجار شنطة يسرحون ببضاعتهم ‏المضروبة والمغشوشة فى فضاء النايل سات، ويتسكعون على ‏نواصى القنوات التى تنسب نفسها زورًا إلى الدين الحنيف، ‏ليتسوّلوا ما تيسّر من منافع ومكاسب دنيوية دنيئة، ثم خطباء ‏المساجد الذين تحوّلوا إلى أبواق مشروخة تنشر الفتنة والعمى ‏والبلاهة، وتخلط الدين بالسياسة إذ يجهلون صحيح الدين ولا ‏يعرفون شيئا عن السياسة، هؤلاء الذين حولوا خطبة الجمعة ‏إلى وجبة من النفاق المسموم يدسّونها فى أفواه الأبرياء من ‏المصلين فتصيبهم بعسر الهضم والانتفاخ السياسى المذموم، ‏وربّما كان ذلك بعلم السيد وزير الأوقاف شخصيّا، أو بإيعاز من ‏فضيلته أو من بعض رجاله الزاحفين نحو المناصب التى لن ‏تشفع لهم فى يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، وليست الحال فى ‏معظم الكنائس بأمثلَ منها فى معظم المساجد، الجميع سواسية ‏فى الأخطاء وفى نثر بذور الفتنة والجهالة والشقاق، وإذا كان ‏رجال الدين يرتكبون الأخطاء الفاحشة ويكذبون وينافقون ‏ويزحفون على بطونهم فى كل الوسائل المتاحة وبكل السبل ‏المتاحة، فكيف نلوم جنود الشرطة إذا أخطأوا، ومعظمهم،كما ‏نعرف، من أبنائنا وإخواننا البسطاء وغير المتعلمين؟، وإذا كان ‏رجال الدين يجاهرون بالبذاءة والشتائم والسفالة والانحطاط ‏على الهواء مباشرة، فلماذا نلوم ضابطا، كبيرا أو صغيرا، إذا ‏وقع فى الخطأ وسبّ وشتم وتجاوز مثلما يتجاوز الذين يتكلمون ‏بالقرآن والسنّة؟.

كنت أودّ أن أقول: إن كل الأوساط والقطاعات مليئة بالثقوب، ‏لكننى بدأت برجال الدين، النموذج والمثال، ومن بعدهم يأتى ‏فصيل الإعلام بكل أشكاله وألوانه ووسائله، فالرقص فيه خارج ‏عن كل المواصفات القياسية التى تحددها الرقابة على ‏المصنفات الأخلاقية، المنافقون الإعلاميون فى بلادنا ليس لهم ‏مثيل، أناس يتمتعون بالتناحة والبرود والمشاعر الشمعية ‏الجامدة، لا يعنيهم احتقار المجتمع، ولا ينظرون إلا لشيئين : ‏المنصب والفلوس؛ (والمنافع التى تتم ترجمتها إلى الفلوس ‏ترجمة فوريّة)، فالذين رقصوا للمخلوع ومراته وعياله، ‏وزحفوا على بطونهم ليلحسوا الغبار عن ملابسهم وسيرتهم، ‏يواصلون لعبتهم التى يتقنونها فيمارسون الزحف من أجل ‏لحس الغبار عن سيرة جماعتنا وبلاويها ومساوئها!، الناس ‏يسمونهم المتحوّلين، ولا أراهم كذلك، هم مخلوقون هكذا، ‏منبطحين ومنسحقين وأذلاء، لا يستطعمون حياتهم فى ظلال ‏الحرية والكرامة، ولا يشعرون بوجودهم، مثل حشرات الليل ‏وهوامه، إلا فى ظلام العبودية، العبودية لأى أحد، الكتاب ‏والشعراء الذين لحسوا الأرض تحت أقدام مبارك وأسرته ‏الكريمة، ونزحوا خزائنه وعطاياه ودخلوا الحظائر وباضوا ‏ورقدوا على البيض ففقسوا لنا شيئا هلاميا خياليا يشبه طائر ‏النهضة والعياذ بالله، أصبحوا الآن أيقونات الثورة، فلماذا ‏نتعامى، أو نتساهى، عن أخطاء هؤلاء، ونقوم بنصب المشانق ‏إذا أخطأ شرطىٌّ كبير أو صغير؟.

كنت أريد أن أذكّر الجميع بأيّام الشرطة المصريّة الخالدة ‏وتاريخها الناصع المضىء، وبالشهداء الذين قدّموا أرقى صور ‏التضحية وأعظمها، فرجال الجيش الأبطال يموتون برصاص ‏الأعداء وغدرهم، وهناك فى البعيد.. البعيد..على الحدود ‏الفاصلة بيننا وبين أعدائنا، أما رجال الشرطة، واأسفاهُ، ‏فيموتون برصاص إخوانهم فى الدين وفى الوطن وفى كلّ ‏شىء، وما أبشع أن تجيئك الطعنة من الخلف، ومن أن تغدر بك ‏يد أخيك الذى تقضى عمرك فى الدفاع عن أمنه وسلامته، ‏وتحميه فى كلّ خطوة يخطوها على أرض بلادك، شهيد الجيش ‏منذورٌ للقتال والدفاع عن تراب الوطن ضد الأعداء( الآخرين)، ‏وهو دائما يعتبر نفسه الشهيد القادم أو المُحتَمَل ويضع روحه ‏على كفّه فداء للأرض والعرض وللشرف الوطنى، بينما رجال ‏الشرطة يمشون بيننا ونعرفهم ونعرف أماكنهم وليس بيننا ‏وبينهم أية أسوار أو أسرار، وعندما يغدر بهم البعضُ تكون ‏مصيبتنا مضاعفة، وحسرتنا لا عمق لها، وكم كانت مصائبنا ‏وحسراتنا ونحن نودع شهداء الشرطة وأبطال الوطن واحدا بعد ‏الآخر، فإذا كان بينهم متجبرون وقُساة ومنحرفون، فلا تنسوا ‏النعوش التى تعبر العيون وتسكن الذاكرة فى كلّ يوم، ولا تنسوا ‏سرادقات العزاء والألوان السوداء التى تطرّزُ شرفات كثيرة، ‏والحزن الأسود الذى سكن قلوبا وبيوتا لا حصر لها إلى الأبد، ‏حزنا على هؤلاء الأبطال الذين راحوا هدرًا بأيدى إخوانهم.‏

كنت، بكل ما فى ضميرى من حبّ وخوف على هذا الوطن، أريد ‏أن أصرخ فى الجميع: ارفعوا أيديكم عن الأبطال، ابتسموا لهم ‏وامنحوهم الثقة ليعودوا إلى رسالتهم وأدوارهم فنحن بدونهم ‏بلا غطاء، المجتمع كله ملىءٌ بالمنحرفين والخارجين على ‏القانون، فإذا خرج رجل من الشرطة عن دوره وخالف القانون ‏فلا نسبّ الجميع، ولا نسكب غلّنا وأحقادنا فوق رؤوس الآلاف ‏من الشرفاء أبناء هذا الشعب العظيم وحماة أمنه وسلامته ‏واستقراره .‏

كنت أشعر بطعم المؤامرة ضد هذا الكيان العظيم من أجل تخريبه ‏وإعادة بنائه بالشكل الذى يجعله تابعا لأهواء حبايبنا، وعشت ‏الأسبوع الماضى بكامله أبتكرُ الأعذار لرجال الشرطة، وأحاول ‏التأليف بينها لتكون رسالة منّى، وشهادةً لله، من أجل أن نعودَ ‏كما كنّا، ثمّ نصبح ،معًا، كما نتمناه لبلادنا وأهلنا، طلبت من ‏الفنان الشاب خضر حسن أن يرسم هذا البورتريه لرجل ‏الشرطة فى أبهى صورة، وأن يجعله نظيفا نقيا يحمل كل ملامح ‏المصريين، وأن يبدو قويا شجاعا متكاملا.... إلخ، ومسحت من ‏ذهنى كلّ صور الاعتداء والإذلال والتجبّر التى يمارسها بعض ‏رجال الشرطة ضد الغلابة، حتى لو كانوا مجرمين، وتجاوزت ‏فوق كلّ أحداث الثورة، وما أسقطوه من شهداء ومصابين، ‏بأيديهم، أو بتهاونهم، وقلت: كانوا واقعين تحت ضغط المفاجأة، ‏وتحت وطأة نظام مستبد عوّدهم أن يحموا عرشه وأذنابه، ‏وأظهر المجتمع أمامهم مجرد أقلية منحرفة لا يحق لها أن تحيا ‏فى ظل هؤلاء السادة، كانت عقيدة ملوثة، وميراثا ثقيلا تسرّب ‏فى تكوينهم، من قبل أن يحملوا رسالة أمن هذا المجتمع، كانوا ‏دائما مأمورين ليس بأيديهم حيلة، وبما أنّ الغمة قد انقشعت، ‏وتنفسنا جميعًا نسيم الحرية والكرامة، فلنغف، ولنتسامح، ما ‏دمنا نرى طريق المستقبل لا يستقيم إلا بالجميع......!‏ .

كنت وكنت وكنت.....، وما أسوأ أن تسجن فكرك وضميرك فى ‏حفرة فعل ماض!، ‏
صدمتى فوق الاحتمال، وفجيعتى أضخم من مساحة جسدى ‏وعمرى، يلاحقنى الإحساس بالعار والخزى والفضيحة كلما ‏رأيت قنوات الشامتين تعيد مشهد سحل المواطن الغلبان أمام ‏قصر الرئاسة، ذات نفسه،.. لم تسارع الحكومة بالاستقالة، ولم ‏يقم السيد الرئيس بالإقالة، ولم يتم القبض على هؤلاء الذين ‏جعلونا نشعر أننا فى سجن أبوغريب العراقى أو معسكر ‏جوانتانامو الأمريكانى، وليس أمام القصر الرئاسى!، وزاد ‏الإحساس بالمرارة والأسى عندما فاجأتنا القناة الأولى بلقاء ‏حصرى للسيد المسحول وهو يشيد بالمعاملة الحسنة من ‏السادة ساحليه ورؤسائهم، كما أثنت السيدة زوجته على ‏هؤلاء وكرمهم وأخلاقهم الحسنة، مما جعلنى أتشوّق لأخذ دورى ‏فى السحل والمرمطة والإهانة؛ لأحظى بمثل تلك المعاملة...، أما ‏المأساة الكبرى؛ فكانت ألسنة تجار الدين على قنواتهم ‏المفروشة، وتلك الفوضى التبريرية، وما استوجبته من روايات، ‏يعجز عن سلقها عتاة مؤلفى المسلسلات التركية...  .

لكِ اللهُ يا مصرنا الباقية، رغم أنف كلّ هؤلاء الراحلين... و...، ‏حسبنا اللهُ ونعمَ الوكيل .... ‏
"نقلا عن الأسبوعى"...
الجريدة الرسمية