رئيس التحرير
عصام كامل

محمد الأمين.. وسر الرقم 128

مفارقات الأرقام عجيبة وكأن لديها أرواحًا تريد أن تخبرنا بالمزيد من أسرارها.. تأمل معي رقم 128، إنه لا يحمل فحسب اسم السيارة الفيات الشهيرة، إنما هو بالتقريب عدد الكيلومترات الفاصلة بين محافظتي الجيزة وبني سويف، وهو أيضًا بدقة نفس عدد السنوات الفاصلة بين العام الجاري 2022 (بدايات القرن الواحد والعشرين) والعام 1894 (نهايات القرن التاسع عشر).. خط مستقيم يصل المسافات بالأزمان.. وعلى كل جانب واقعة تتقاطع مع الأخرى.. فما أشبه الليلة بالبارحة!


في أوائل أغسطس عام 1894 قطعت قافلة صحراء الجيزة تحمل على متنها عددا من النخاسين يصطحبون 6 جواري من الحبشة بحثًا عن زبائن إلى أن استقر بهم المطاف لعرض بضائعهم على رئيس مجلس شورى النواب!
تفقد على باشا الشريف البضاعة، واختار عددا من الجواري، أمر بإرسالهن إلى الحرملك، ويروي لنا المؤرخ الكبير الراحل صلاح عيسى وقائع هذه القصة المخزية بالتفصيل في كتابة الشهير (حكايات من دفتر الوطن)، موضحًا مصير الجواري الستة الذين توزعوا على بيوت رئيس مجلس الشورى واثنين من أعضاء المجلس وبيت أحد الأثرياء.


كانت المفارقة أن المجلس نفسه قد طالب قبل شهور من الواقعة بتفكيك مصلحة إلغاء الرقيق باعتبار أن تجارة الرقيق قد انتهت في مصر منذ سنوات طويلة فلا مبرر لأن يتقاضى الإنجليزي جيفر بك وضباطه من ميزانية وأموال الشعب وأقواتهم للإبقاء على مصلحة لا مصلحة أو فائدة من وجودها..


لذا يمكن أن تتخيل الابتسامة الواسعة التي ارتسمت على وجه جيفر بك عندما علم أن باشوات المجلس قاموا بارتكاب جريمة الإتجار في الرقيق بينما كانوا يطالبون قبل شهور بإلغاء المصلحة وطرده من عمله. قُبض على الباشاوات، وانعقدت المحاكمة، لتهتم بها الصحف المصرية والعالمية.. كان الجميع يريد أن يوظف القضية لخدمة مصالحه أما الجواري المساكين فلم يهتم أحد بمصيرهن أو حرياتهن.

 

تقاطع الزمان والمكان


تحدثت الصحف الإنجليزية عن بشاعة المصريين الذين يتاجرون في الرقيق، وتناست استعبادها واحتلالها لشعب بأكمله، واستغلت القضية في تبرير استمرار احتلالها لمصر كون هذا الشعب الذي يتاجر أعيانه في الرقيق لا يستحق أن يحكم نفسه، كما كانت الجواري الستة بمثابة الحجة الإنجليزية لارتفاع الأصوات التي تنادي بإحتلال إنجلترا للسودان لقطع الطريق أمام تجارة العبيد.


أما بعض الأقلام المصرية فقد دافعت بالباطل عن الباشوات بحجة أن ما حدث تعدي على حرياتهم الشخصية بل أن أحد الصحف اعتبرت أن شراء العبيد عمل إنساني لأنه ينقل العبد من حالة البؤس إلى الرخاء.. وبالطبع صدرت بعض الأصوات المشككة في القضية دون سند متحدثة عن مؤامرة دُبرت للباشوات رغم اعترافهم!


لا داعي لإخبارك بنهاية القصة المذلة لعلي باشا الشريف الذي تم إجباره على الاستقالة من المجلس، وكتابة اعتراف بجريمته، وطلب الاعتذار، ليعتكف بعدها في منزله منعزلًا ويموت كمدًا. بعد أن انتهت القضية وحصل منها الإنجليز على ما أرادوا بعد أن تشدقوا بالحديث عن الدفاع عن الحريات والمساواة وحقوق الإنسان وتحرير العبيد، واستفادوا منها في ترسيخ احتلالهم لمصر، وبرروا بها غزو للسودان..

 

إنفض المولد بعد أن حققت القضية أهدافها.. ولم يهتم أحد بمصير الضحايا أو الجواري.. لا الرأي العام المحلي الذي دافعت بعض أصواته عن الباشوات.. ولا الرأي العام العالمي الذي أدانهم وأدان معهم مصر بأكملها.. الواقع إنه لا أحد يعلم شيئًا عن مصير الجواري.. أو بالأحرى لم يكن أحدًا يهتم بهن كفاية ليسجل ما حل بهن بعد انتهاء القضية.. والأغلب إنهن عادوا إلى أسيادهم من النخاسين بحثًا عن مشترين وأسياد جدد!


تذكرت هذه القصة وأنا أطالع مئات الأخبار التي تحاصرني في كل مكان عن حكم قضائي بإدانة رجل الأعمال محمد الأمين بالسجن المشدد ثلاث سنوات بتهمة هتك عرض فتيات في دار أيتام يمتلكها في بني سويف.. ومن المؤكد أن الحكم هو عنوان الحقيقة الواجب احترامه.. لكنني وسط كل هذه الأخبار لم أجد من يتحدث عما ستتخذه وزارة التضامن الاجتماعي من تدابير لحماية الأيتام، أو تشديد الرقابة على دور الأيتام في عموم الجمهورية لمنع تكرار مثل هذه الحوادث المؤسفة، وكأن المولد قد انفض بمجرد النطق بالحكم ضد  محمد الأمين!


وما بين تجار الرقيق في صحراء الجيزة.. وتجارة البشر بدار الأيتام في بني سويف.. مسافة 128 كيلو و128 عام.. والكثير من القصص والمآسي.. من زمن الشريف إلى أيام الأمين.. ضحايا لا صوت لهن لكن يتردد صدى صرخاتهن في أقلام لا نملك سواها في محاولة للتعبير عنهن.

 


لست في خصومة مع علي باشا الشريف أو محمد بك الأمين لكنني أناشدكم بأن تكون هذه الواقعة فرصة لفتح قضية شائكة وهي ملفات الجمعيات العاملة في خدمة الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين.. هذه الجمعيات التي خُصصت لتخفيف آلام الفئات المهمشة والضعيفة لأن الرقابة والبحث والتدقيق ورائهم سيجعلنا نكتشف المزيد من الضحايا الواجب حمايتهم.. والمزيد من الصرخات الواجب الاستماع إليها.. لذا أرجوكم لا تسمحوا للمولد بأن ينفض!

الجريدة الرسمية