رئيس التحرير
عصام كامل

ميلاد المسيح عمانوئيل.. "الله معنا"

اليوم يحتفل العالم بعيد ميلاد السيد المسيح، ملك السلام. اليوم تنشد الملائكة: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة" (لوقا ١: ١٣). اليوم أراد الله في حكمته الأزلية أن يتجسَّد، أي أن يصبح إنسانًا من دون أن يتخلى عن الوهيته. فأرسل كلمته، وهو روح منه، كي يصيح بشرًا ويسكن بين الناس، ليفتديهم ويجعلهم أبناء الله: "فلما تم الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني" (غلاطية ٤: ٤ - ٥).

ميلاد السيد المسيح سر سامي المقام، لا يستطيع الإنسان إدراكه إلاَّ بالإيمان.. لم يولد السيد المسيح بين الناس في فراغ ديني، بدون سابق إعلام وتهيئة وإعلان.. بل أعدت مجيئه سلسلة من الأنبياء في العهد القديم الذين أخبروا عنه، كما قال أشعيا النبي: "ها إن العذراء تحمل ابنًا، وتدعوا اسمه عمانوئيل" (أشعيا ٧:٤)، أي: "الله معنا". "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والمقيمون في بقعة الظلام أشرق عليهم النور.. لإنه ولد لنا ولد، وأعطي لنا ابن فصارت الرئاسة على كتفه.. ودُعي اسمه عجيبًا مشيرًا، إلهًا جبارًا، ابا الابد، رئيس سلام" (أشعيا ٩: ١ - ٥).

ولم يظهر السيد المسيح على الأرض مثل ملاك سماوي، بلا جذور إنسانية وأسرة بشرية، بل ولد في عائلة احتضنته وربته، وكان يترعرع ويشتد ممتلئًا حكمةً، وكانت نعمة الله عليه" (لوقا ٢:٤٠). ولم يأتي إلينا السيد المسيح في شبه إنسان خارق لا تحده قوانين الطبيعة، بل جاء إلينا، كسائر الاطفال، حامِلًا الطبيعة البشرية، ما عدا الخطيئة، ولابسًا القدرة الإلهية.

وكان مولده في بيت لحم في فلسطين المحتلة، كما أنبأ بذلك النبي ميخا قائلًا: "وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا، لست أصغر ولايات يهوذا، فمنك يخرج الوالي الذي يرعى شعبي " (ميخا ٥: ١) و(متى ٢: ٦) ولا تزال كنيسة المهد شاهدة على ذلك ومحجة للمؤمنين.

مولد السيد المسيح

وكان لمولده زمان.. في أيام الملك هيرودس، في عهد قيرينيوس الروماني حاكم سورية. إنه الزمن المنتظر. إنه اليوم المرتضى. "فإن الله بعدما كلَّم آباءنا قديمًا مرَّاتٍ كثيرة بلسان الأنبياء كلامًا مُختَلِفَ الوسائل، كلمنا في هذه الأيام، وهي آخر الايام، بلسانِ الابن الذي جعله وارثًا لكل شيء وبه أنشاء العَالمين. هو شعاع مجده وصورة جوهره، يحفظ كل شيء بقوة حكمته وكلامهِ (عبرانيين ١: ١ - ٣). ففي يسوع المسيح تحققت التنبؤات والشرائع.

السيد المسيح آية معرضة للرفض.. يقول يوحنا الإنجيلي في بداية بشارته عن الكلمة المتجسد: "جاء إلى بيته فما قبله أهل بيته" (يوحنا ١: ١١). وجاء في نبوءة سمعان الشيخ عن الطفل يسوع لما حملته إليه أمه مريم: سيكون "آية معرضة للرفض"(لوقا ٢: ٣٤). وبدأت المأساة حتى في يوم مولد السيد المسيح، حين أغلقت الأبواب في وجهه، أبواب البيوت والفنادق والمضافات في بيت لحم.. فولدته أمه مريم في مغارة متواضعة: "فقمطته وأضجعته في مذود لأنه لم يكن لهما موضع في المضافة" (لوقا ٢: ٧).

من كان يستطيع، بحسب قول أباء الكنيسة أن يتصور أن ملك السماوات والأرض، وخالق الأكوان لا يجد في مملكته، وبين خليقته، مكانًا يمكن أن يولد فيه ابن الإنسان؟! نعم، إن الصحف لتطوى، والتاريخ ليبطل! ولكن، ستبقى هذه العبارة المحملة بالأسى، المثقلة بالأحزان: "لم يكن لهما موضع في المذود". ولكن، إذا جاء إلينا السيد المسيح اليوم، فهل يجد له موضعًا في قلوبِنا وبيوتنا؟

لقد امتلأت منازلنا بكثير من الأشياء والكماليات، حتى إننا لم نترك مكانًا لاستقبال ذاك المسيح الآتي إلينا. لقد علا الضجيج والصراخ والشجار في العالم وفي مجتمعاتنا، في بيوتنا ومدارسنا ومؤسساتنا ومستشفياتنا، حتى لم نعد نسمع صوت المسيح الواقف أمام الباب. لقد غطت عيوننا الغشاوة. ولفَّت قلوبنا القساوة. وأفسدت نفوسنا الأهواء.. فأنى للمسيح أن يجد له بيننا مقامًا؟

ما أشبه اليوم بالأمس! نعيش وكأن لا مكان لإخوتنا الفقراء والمعوزين والمعوقين والمرضى والمشردين واللاجئين في مجتمعنا! لأنهم يسلبون راحتنا، ويعيقون حريتنا وينغصون عيشنا! وننسى أن هؤلاء جميعًا هم: "إخوة يسوع الصغار". وأن كل ما نفعله لهم فإنما له نفعله. وفي يوم الدينونة سنؤدي حسابًا عن مدى استقبالنا، أو رفضنا، لكل من يقرع بابنا.

المسيح هدى ونور

أجل انه النور الحقيقي الذي ينير كل انسان آتٍ إلى العالم (يوحنا الاولى ٤ و٩). ولكن الناس فضّلوا الظلام على النور، ولا تزال هذه المأساة مستمرة. فالناس أفرادًا وشعوبًا، اليوم كما في الأمس، "يفضّلون الظلمة على النور لأن أعمالهم شريرة وسيئة. فكل من يعمل السيئات يبغض النور، فلا يقبل إلى النور لئلا تُفضح أعماله. وأما الذي يعمل للحق، فيقبل الى النور لتظهر أعماله وقد صنعت في الله " (يوحنا ٣: ٢١).

ففي عالم يسوده الحقد، والإرهاب، والخوف، وتتحكم فيه مطامع الدول القوية ومصالح المجتمعات الغنية، وتتفشى فيه الأمراض المستعصية والأخلاق المتردية والمبادئ الفاسدة، نحن بحاجة إلى نور المسيح ليهدينا إلى سبيل الخير والحق. فإنجيله وحياته هدى ونور لكل من أراد أن يستنير ويعمل ويشهد للحق.

عيد الميلاد عيد مشترك، عيد الاخوّة الإنسانية: ما أروع الكلمات الرائعة التي بها يصف أمير الشعراء أحمد شوقي لحظات ميلاد السيد المسيح النورانية. ولعل ما جاء في قصيدته، وهو الشاعر المسلم، أجمل الصفات المعبّرة عن ميلاد ملك السلام. ولا عجب في ذلك، فإن القرآن الكريم قد خصّ مولد عيسى بأبلغ الآيات الكريمة في "سورة مريم". وما هذا إلاّ دليل إلى العلاقات المتميزة والأخوّة التي تربطنا نحن المسيحيين بإخوتنا المسلمين وإلى مكانة السيد المسيح الرفيعة في الإسلام. يقول أمير الشعراء: 

ولد الرفق يوم مولد عيســــــى          والمروءات، والهدى، والحيـــــاء

وسرت آية المسيح كما يـــــس          ري من الفجر في الوجود الضياء

تملأ الأرض والعوالم نــــــورًا          فالثرى مائج بها وضيـــــــــــــــاء

لا وعيد، لا صولة، لا انتقـــــام         لا حسام، لا غزوة، لا دمـــــــــاء !

 

فعيد الميلاد هو عيد مشترك تتسامى فيه روح الأخوة والمحبة والرحمة وتعلو فيه أصوات الملائكة في نشيد الكون: "المجد لله في الأعالي والسلام في الأرض والمسرة بين الناس " (لوقا ٢: ١٣). نعم، إننا إخوة، والله يريدنا أن نحيا معًا متحدين في الإيمان بالله الواحد وبوصية محبة الله ومحبة القريب. معًا سنعمل على بناء مجتمعات مدنية مبنية على المواطنة والحرية الدينية وحرية المعتقد. معًا سنتعاون لتعزيز العدل والسلام وحقوق الإنسان وقيم الحياة والعائلة. إن مسؤوليتنا مشتركة في بناء أوطاننا. نريد أن نقدّم للشرق والغرب نموذجًا للعيش المشترك بين أديان متعددة، وللتعاون البناء بين حضارات متنوعة لخير أوطاننا ولخير البشرية جمعاء. 

 

في هذا العيد المبارك، نؤكد إن الطريق إلى السلام بين الشعوب يمر عبر احترام حقوقها وبالحوار والتسامح والانفتاح وقبول الآخر وبناء حضارة المحبة. إن أفضل هدية نتلقاها ونوزعها في هذا العيد هي تجديد الوعي المعرفي والموضوعي بجوهر المسيحية والاسلام. وبهذا نعطي العالم مثالًا يحتذى في التآخي بين الشعوب والحضارات والأديان. ولذلك يجب علينا ان نقف صفًا واحِدًا لنشر ثقافة الإخاء والتسامح والمحبة والوحدة الوطنية.

 دعاء:

في هذا العيد المجيد المبارك، نرفع صلاتنا إلى الله الحاضر معنا وبيننا، من أجل رئيس بلادنا وحكومته الرشيدة، وليعمَّ السلام والوئام في العالم أجمع وخاصةً في منطقة الشرق الأوسط، وتبتعد عنا أشباح الحروب والفتن والظلم والحقد والبغض والامراض.. لأن الله محبة، وهو لا يولد في قلوب يعتصرها الحقد والكراهية والانتقام ورفض الآخر بل في قلوب نقية طاهرة على مثال خالقها.

 

 

أعاد الله علينا أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة المباركة بالخير واليمن والبركات، منتظرين عودة السلام والاطمئنان والاستقرار الى ربوع بلادنا التي عاش فيها وباركها ملك السلام يسوع المسيح. ليعطيكم السلام رب السلام نفسه في كل حين وفي كل حال.. المسيح ولِد فمجدوه، هللويا، هللويا، هللويا.

وكُلُّ سنة وأنتم سالمين

الجريدة الرسمية