رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

حكايات البحر

قبل أيام احتفت السوشيال ميديا بذكرى رحيل الأديب نجيب محفوظ.. كانت الذكرى فرصة لإعادة تذكير أجيال شابة بأعماله ومقتطفات من رواياته عبر إعادة نشرها على المواقع الاجتماعية.. للمبدع أعمال لا تُنسى.. وروايات ستعيش طويلًا.. واحدة منها هي رواية "ميرامار" التي ألهمته مدينة الإسكندرية على إبداعها بما لها من تأثيرها الخاص على جميع الكتاب.. يأتون إليها فيتدفق إبداعهم..

 وفي ظني أن سحر المدينة يبدأ مع شهر سبتمبر واقتراب الخريف.. في ذلك الوقت يغمرني الحنين إلى مدينتي واتذكر مدى اقتراب منزلي القديم من ميناء الإسكندرية لدرجة جعلت صافرات السفن أمرًا مألوفًا اعتدت سماعه، مثلما أحببت مشاهدة السفن الضخمة وقد اقتربت من رصيف الميناء أو بدأت في الابتعاد عنه.. تنزل من فوقها البضائع أو يصعد على متنها المسافرون.

وللميناء حكاياته وأسراره ورحلاته التاريخية منها رحلة قطعتها سفينة فرنسية حملت "نابليون بونابرت" من مصر إلى فرنسا بعد إخفاقه في تحقيق أهداف حملته العسكرية قبل أن يجلس بعدها بسنوات داخل سفينة أخرى منتظرًا وصوله إلى منفاه في جزيرة سانت هيلانة حيث قضى آخر سنوات عمره يحلم بالعودة لوطنه.

حواديت المسافرين

في سنوات نفيه كان هناك رجلًا بمصر شديد الإعجاب به، يفتخر بأنه وُلد فى نفس عام ميلاده، ولم يكن رجلًا عاديًا بل الوالي "محمد علي" الذي أرسل سفينة خدعت الإنجليز واستطاعت الرسو على شواطئ الجزيرة بهدف إحضار "بونابرت" إلى شواطئ الأسكندرية ولكن الأخير رفض أن يصعد للسفينة ظنًا منه إنها مؤامرة إنجليزية لقتله، وبعدها فكر والي مصر في خطفه بالقوة أو مقايضته مع بريطانيا ولم يتوقف عن التخطيط لتخليصه من الأسر إلا عندما جاءه خبر وفاة الإمبراطور.

مرت الأيام ليتحول بونابرت إلى "شبح" لا يُخيف أحدًا لذا سمحت بريطانيا لفرقاطة فرنسية بحمل رفاته من جزيرة سانت هيلانة إلى فرنسا ليعود الإمبراطور أخيرًا إلى وطنه، بينما أصبح محمد علي "شيخ" تراكمت عليه مؤامرات الدول الغربية حتى أفصحوا عن نواياهم أمامه في بهو قصره برأس التين بالإسكندرية بأن دولته ستنهار إذا لم يذعن لهم.

جاءت الكثير من السفن وغادرت أخرى عبر موانئ مصر.. بعضها كان وسيلة الغزاة لاحتلالنا وبعضها الآخر كان وسيلتهم للجلاء بعد أوقات صعبة حملت في طياتها ثورات دعمها أحرار، وأحلام صنعها أبطال، وكوابيس صاغتها الظروف.

رغم يقيني بأن السفن التي شاهدتها في الميناء لم تحمل أبدًا جيوش الإنجليز أو أباطرة فرنسا إلا أنني كنت أنتظر قدومها وأراقب رحيلها كمن تكلف بمراقبة الميناء للاطمئنان على أحواله.

قد أسرح أحيانًا بالخيال فتقمص شخصية "رجب" في فيلم (صراع في الميناء) أو ربما انشغلت أثناء مراقبة السفن بتذكر حكايات قديمة تداولتها مقاهي شارعنا عن جارنا العامل الفقير الذي تحول بعد سنوات إلى أكبر أغنياء لندن وكاد يصاهر العائلة المالكة لولا حادث قضى على نجله بصحبة الأميرة ديانا أو تغضبني أحداث قصة عامل آخر في شارع مجاور باع الوطن وسجلت السينما حكايته في فيلم (بئر الخيانة).. وتراودني روايات لآخرين استطاعوا ترسيخ حب الأرض في قلوب أبنائهم وتقديمهم شهداء.. بكوا عليهم كثيرًا، وحكوا عنهم أحيانًا، ولكنهم لم يندموا على تضحياتهم أبدًا.

مرت سنوات أطول لأودع الطفولة، وأهاجر ساعات مراقبة الميناء.. ورغم التوقف عن الاستماع لحكايات السفن إلا أنني مازلت أتذكر حواديت المسافرين كلما مررت بجانب الميناء أو استمعت إلى صافرات السفن.

Advertisements
الجريدة الرسمية