رئيس التحرير
عصام كامل

أسود فقراء

كان بيته يكاد يلاصق أسوار المدرسة, ولكن كان من الصعب بأن تصفه بالبيت, فهو مجرد مجموعة من الألواح الخشبية القديمة المتراصة بحيث تسند بعضها البعض, والتى ظهر واضحا عليها فعل الزمان وتلاعبه بها, عندما كانت المعلمة فى سعبينات القرن الماضى تسألنا عن وظيفة أولياء أمورنا, كان يتوارى خجلا لأنه لا يعرف وظيفة أبيه تحديدا, فهو كما تصفه أمه على باب الله!

ولقد توقف عن قول ذلك بعدما جرحته يوما إحدى التلميذات عن غير قصد, وسخرت من عمل أبيه المبهم فى براءة ضاحكة منه وعليه, ثم تبعها باقى الفصل, ومدرس الحساب الذى لم يقدر حاله ولم يشعر بحرجه, و الذى كنا نحقد عليه طبقيا حينها, لأنه كانت تبدو عليه أثار العز حينها, حيث كان يأكل يوميا ساندوتش قشطة بالعسل فى رغيف فينو بسبعة قروش كاملة من عند اللبان الشهير فى الشارع المجاور !

جهاد الهبر !
يومها بكى اسماعيل كثيرا وأبكانى معه, فنحن كنا نشبه بعضنا البعض فى الفقر, والدى خرج على المعاش وتأثر بانفتاح الرئيس المؤمن الذى حول الحياة لجحيم مستعر, ووالده تقريبا بلا عمل ثابت, يخرج كل يوم ساعيا وراء أى رزق يستر به إسماعيل وأمه وشقيقه الأصغر.. لذا كنا نشعر دوما باقترابنا وباتحادنا فى البؤس والفقر, وأيضا كنا نتحد فى حب كرة القدم وبيبو والسيرك والمولد, مولد أبو الريش المسمى على اسمه حينا العتيق فى دمنهور الأصيلة الممتدة منذ 4000 ألاف عام!

كنا نخرج أنا و إسماعيل لنلعب الكرة فى حوش المدرسة أو بجوارها, نتبادل ما تيسر من سندوتشات المش من الخالة آمنة عندما تكون الحالة معنا متوسطة, وأحيانا نكون بلا سندوتشات نهائيا لانعدام المصروف, وفى وقت اليسر كانت كسرات الطعمية الساخنة من الست أم سوسو مصدر لفخرنا وثرائنا المؤقت الفانى دوما, ولكننا كنا دوما مرفوعى الهامة, واثقى الخطوة نمشى بشموخ الملوك, لدرجة أن اسماعيل كان يرى نفسه دوما أسدا, وأنا أرى نفسى الفنان الوسيم محمود يس, وبخاصة فى دوره الرائع فى المسلسل التليفزيونى المقتبس من قصة ديستيو فيسكى الآبله!

كان اسماعيل من المهمشين فى الأرض, طفل أسمر جميل, به كل مقومات المروءة, ولكن كان الفقر قوادا حقيرا يدفعه دوما لارتكاب حماقات صغيرة, لا ينبغى حسابه عليها بالقياس لحماقة من حوله, ولزق المحيطين به من أبناء الطبقة شبه الوسطى المستورة, والتى كانت تفصل بينه وبينها مساحات شاسعة.

هل أتاك حديث تلك المعلمة!
قالى لى صباح يوم مشرق فى بداية شهر نوفمبر فى أوائل الثمانينات من القرن الماضى: يلا يا فتوح نروح الليلة (سيرك الحلو الرياضى الكبير), قالها هكذا لأننا كنا يوميا نسمع المنادى يصفه بذلك, ولكن لأننا رقيقى الحال أنا ورفيقى الحبيب (سمعه) فلقد استحيينا من الاقتراب منه إلا تلصصا, ومن وراء حجاب سميك, وهو عبارة عن ستارة الفراشة التى ثقب فيها الأسد المتوهج المتوثب منفذا لمشاهدة العروض خلسة, وكانت دوما صورة الأسد عالقة فى ذهنه, يريد أن يراه ويتمثل به, يريد أن يكون أسدا مثله ربما لكى يصرع الحرمان والفقر اللذين لازماه كل سنين عمره فى بدايتها.. 

وبعد قليل من الإقناع الطفولى البرىء, نجح الشبل (سمعه) في اصطحابى لمشاهدة الأسد من وراء الكواليس, واكتفيت بذلك ورضيت بنصيبى وقدرى فى رؤية ما أحبه من خلف ثقوب, مثلما تعودت على رؤية الأغراض وعدم الاقتراب منها والاكتفاء بالفرجة والحلم وانتظار الفرج، ولكنه لم يكتف, ولم يقنع, ولم يرض غروره.. 

صراعات المترفين
استغل سمعه اندفاع الجمهور لدخول العرض غالى الثمن واندس وسط الزحام ونجح فى حجز مكان قريب جدا من قفص الأسود, واستمر فى حالة هيامه تلك حتى فوجى كل الحاضرين فى السيرك مع المدربين بأسد يصوب مخالبه في يد اسماعيل الصغير والذى حاول أن يقترب من الأسد فأوشك أن يفترسه.. نقلوا اسماعيل رفيقى للمستشفى و خرج بسلامة الله بعد أيام, لكننى اقتنعت من يومها أن الفقراء فى بلادى فريسة لكل حيوان !

آخر مرة قابلت فيها إسماعيل كانت منذ بضع سنوات على رصيف محطة دمنهور القاهرة حيث كان يصارع الدنيا المستأسدة عليه, وكان يبيع أشياء بسيطة للمسافرين.. الفقر والتهميش, وغياب المساواة, وإنعدام الحق فى الحياة أضاعوه وافترسوه حتى يومنا هذا.. تعانقنا أمام المارة وبكينا وضحكنا وصخبنا, تناولنا سندوتشات فول و طعمية بكل شمم وشموخ كعادتنا, ثم عزمنى على كوب شاى على حسابه فى رصيف المحطة وذكرته بالأسد وذكرنى بالفقر الأشرس من أسد سيرك الحلو الرياضى الكبير الذى حاول إفتراسه وهو طفل صغير فى مولد أبو الريش !
fotuheng@gmail.com
 

الجريدة الرسمية