رئيس التحرير
عصام كامل

وسع للعقلاء

يتناول كتاب «تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا» لـ كلود كيتيل «مسألة الجنون» بصورها وأبعادها المختلفة خاصة التاريخ المرضي، وكيف تعاملت الحضارات مع هذا الأمر..

 

وحسب المترجمتين سارة رجائي يوسف وكريستينا سمير فكري، في كل مكان وزمان كان ثمة أشخاص مجانين، وفي كل مكان وزمان كان ثمة استجابة أخلاقية واجتماعية وطبية وجنائية لهم. يستند هذا الكتاب -الذي يؤرِّخ للجنون على مر العصور- إلى ركيزة غير مسبوقة من الأعمال الأرشيفية.

 

فمن «مرض الروح» إلى العُصاب والذُّهان، ومن معابد أسكليبيوس إلى المصحات النفسية مرورًا بمصحة إسكيرول، ومن العلاج بالأعشاب إلى العلاجات المعرفية السلوكية، لا يسرد المؤلف مجرد قصة أخرى عن الجنون، بل تاريخ الجنون نفسه.

 

اقرأ ايضا: عزيزي قاضي البلاج

 

وفي الفصل الأول وتحت عنوان «رب وأرباب»، يكشف الكاتب بعض من ملامح تعامل الحضارة المصرية القديمة مع الجنون والمجانين، مشيرا إلى معبد ممفيس، «الذي كان يعد مدرسة للطب ومشفى في الوقت نفسه».

 

ويقول المؤلف إن من بين الذين كانوا يتوافدون على هذه المعابد طلبًا للشفاء، المجانين الذين كانوا ينتظرون دورهم لحدوث معجزة معهم من خلال ممارسة بعض الطقوس، واصفا حدوث ذلك وسط أجواء من الشعائر الدينية، مثل الصوم والاغتسال والتطهر والدَّهن بالمسحة المقدسة قبل الدخول إلى المعبد، ببضعة أيام، للمبيت فيه ليلة.

 

ولا يتوقف علاج المرضى في المعبد على الطقوس الروحانية، إذ أنه في اليوم التالي لما وصفه المؤلف بـ«نوم حضانة المرض»، والذي يمكن أن يصاحبه تناول بعض العقاقير، «كان المريض يقص أحلامه على الكهنة الأطباء»، الذين كانوا بدورهم يقومون بتفسيرها للحصول على وصفات العلاج والأدوية والأنظمة الغذائية، والتي كان الإله بنفسه هو من يمليها على المريض في بعض الأحيان عن طريق الأحلام.

 

اقرأ ايضا: كيف تقتلين زوجك بدون معلم؟

 

ويمكن الافتراض بأن الحالات المرضية للرجال والنساء التي لا أمل في شفائها لم يكن يُسمح لها بدخول المعبد؛ حيث كانت سمعة المكان والإله على المحك. على أي حال، كان هذا الطب الكهنوتي ملائمًا تمامًا للجنون».

 

ويؤكد كيتيل أن المصرين كانوا يعتقدون أن مركز كل شيء هو القلب؛ «فهو مقر الهروب والنسيان، وأن الجنون يصيب المرء حينما تسكن قلبه قوة إلهية (في إشارة إلى الشيطان) ولا يصبح بعدها مسئولًا عن أفعاله. وحينما يعثر الإنسان على قلبه فإنه يستعيد في الوقت نفسه عقله. وظلت هذه الفكرة عن المجنون المُغيب سائدة لوقت طويل، ثم عاودت الظهور خاصة مع نشأة الطب النفسي، في أوائل القرن التاسع عشر، مع ظهور مفهوم الاغتراب (وهي كلمة مشتقة من الأصل alienare وتعني أن يكون الإنسان شخصًا آخر غريبًا)، ليس فقط غريبًا عن الآخرين وإنما أيضًا غريب عن نفسه».

 

اقرأ ايضا: اقتلوا الست النكدية

 

ويوصل المؤلف كلامه عن تعامل الحضارة المصرية القديمة مع الجنون، بقوله «لم يكن الكهنة الأطباء يكتفون بالبقاء في معابدهم بل كانوا يقومون بجولات واسعة لتفقد المرضى. وكان المجانين يمثلون الفئة المختارة لدى هذا النوع من الأطباء الذي يجمع بين السحر والدين».

 

ويبين الكاتب تأثر الحضارات الأخرى بالنهج المصري في التعامل مع الجون كمرض، بقوله: «وقد اتبعت اليونان القديمة (وما بعدها من حقب) النهج الطبي نفسه القائم على الاستعانة بالسحر والدين، متأثرة في ذلك بالطب المصري القديم. كان الكهنة أيضًا هم القائمين على رعاية صحة البشر»..

 

موضحا أن « في تلك العصور القديمة، نادرًا ما نجد حالات من الجنون لها أسباب مرضية أو طرق علاجية ملائمة، بعيدًا عن نطاق التداوي بالسحر والدين. وبالرغم من ذلك، قبل ألفي عام من ميلاد المسيح، عزا المصريون العديد من الاضطرابات النسائية، سواء أكانت جسدية أم نفسية، إلى هجرة الرحم إلى أعلى الجسم؛ مما ينتج عنه حدوث ضيق في التنفس و«اختناق رَحِمِيٍّ» (ما يُقصَد به «الإصابة بالهستيريا»).

 

اقرأ ايضا: السيرة الذاتية لوجه مُجعد

 

انطلاقًا من الفرضية القائلة بأن العضو المهاجر يهرب من الروائح الكريهة بينما تجذبه الروائح الطيبة، وساد اعتقاد بضرورة الجمع بين استنشاق روائح غير محببة وتطهير المهبل بالروائح العطرية لإجبار الرحم على العودة إلى موضعه الطبيعي. وهكذا نشأت الهستيريا، والتي أصبحت حقلًا واعدًا على الصعيدين الطبي والاجتماعي للباحثين بهذا المجال».

 

وهكذا يتضح أننا تعاملنا مع الجنون كمرض من فجر التاريخ، ورغم ذلك لم نفلح في منع «المجانين» من التأثير على حياتنا وشئوننا اليومية والمصيرية، إذ أننا مضطرون للتعامل معهم يوميا فهم يشغلون مراكز مهمة تؤثر في حياة الملايين.

الجريدة الرسمية