رئيس التحرير
عصام كامل

السيرة الذاتية لوجه مُجعد


التجاعيد هي سيرتك الذاتية.. فيها يكمن تاريخك، الذي يسجله الزمن لحظة بلحظة:
1
صديقتي..
في العام الأخير لاحظت انزعاجك من الخطوط التي ظهرت على جبينك، تلك التي أنفقتِ الكثير من أجل محوها، وقد سمعتك مرة تقولين لصديقتك إنك تفعلين ذلك لأجلي، كي تظلي في عيني جميلة.. ربما شعرت ببعض السعادة لرغبتك في أن تجعليني دوما سعيدا بأن أراك في أبهى صورة، لكن يا عزيزتي الأمر لا يستلزم كل ذلك منك، فأنت في عيني الجمال ذاته مهما كانت صورتك..


وربما أكون قاسيا عليك حين أخبرك الحقيقة، غير أنني مضطرا لفعل ذلك لأظل أمينا معك كعهدك بي منذ بدأت علاقتنا الممتدة.

والحقيقة يا حبيبتي أنني أرى في هذه الخطوط على بشرتك تاريخنا الطويل، فكل واحد منها ذكرى، حدث، كلمة، موقف.. شيئا ما جمعنا.. لهذا، فلا تشغلي بالك يا سيدتي بملء الفراغات والثقوب الدقيقة، بل دعيها شاهدا يشي بما كان، ولا تمحي تاريخنا لتبدين أصغر بضعة أعوام..

2
إلى هؤلاء الذين لا يكتبون سيرهم الذاتية على الورق..
بل مطبوعة هي في خشونة أياديهم وانحناء ظهورهم.. في تجاعيد الزمن على وجوههم والندوب على جلودهم.. في ارتعاشة أصواتهم، الشيب، الدوائر السوداء حول عيونهم، ارتجافة أصواتهم اللينة.. في ابتسامة خجلة تموت على شفاههم الداكنة.. في خطواتهم الضيقة، وآلامهم المكتومة في صدور تهدر ليل نهار.. في الرضا الساكن قلوبهم الطيبة..

3
ظن الحلاق أنه يجاملني حين انتزع بضع شعرات بيضاء نبتت في لحيتي.. سلبني المجرم تسع سنين من عمري هكذا في لحظة ثقة عمياء، فقد اعتدت أن أسلمه رأسي وأنا مغمض.. وحين فتحت عيني اندهشت، فمن ذاك الذي يجلس أمامي في المرآة المغبشة.. هو يشبهني لكنه بالتأكيد ليس أنا.. أو ربما أنا وقد استدعاني من ذاكرتي الواهنة.. صرخت حين لم أجدني فأخبرني بما فعله في «شيبتي»..

جلست على الأرض أفرز الخصلات المتناثرة لعلي أجد الشعرات البيضاء.. هو لا يعي أن كل واحدة منها تحمل فصلا من تاريخي، فشعرة منها مثلا ربما كانت فتاة أحببتها لخمس ثوان حين تبسمت لي بدون سبب وهي تعبر الطريق.. والشعرة الأخرى حتما تحمل في جيناتها الآلام التي شعرت بها حين مرضت طفلتي الأولى.. أما الشعرة الثالثة فهي خفقان قلبي حين رحلت صديقتي.. والرابعة ليست سوى انتصارات مدهشة.. والخامسة انكسارات موجعة علمتني أننا نولد ألف مرة.. والسادسة شعرة كانت تحمل حروفا لم أكتبها بعد.. والثامنة شعرة كل الضحكات المؤجلة.. أما التاسعة ففيها كل الدموع التي لم تمطرها عيني في جنازة أمي..

4
أنت لست أنت مائة بالمائة، لست ذاك الطفل الذي ولد قبل عقود، ففي كل يوم تفقد جزءا منك وتكتسب جزءا من أحدهم، تعطي لكل عابر بعضا منك وتأخذ بعضا منه.. أنت مزيج من ألف ألف عابر مروا من أمامك، ومع ذلك فأنت لست مدينا لأحد منهم بشيء، فكما أخذت منهم أخذوا هم منك.. لقد أصبحت منهم وأصبحوا منك، تجمعوا فيك وتفرقت فيهم.. وإذا أردت يوما أن تستعيد ذاك الطفل الذي كان، عليك أن تجمع شتاته من ألف ألف عابر مروا من أمامك.

5
قبل 20 عاما كنت أقف على جانب الطريق في انتظار الحافلة، وفجأة ظهر أمامي رجل ضرير، مد يده نحوي وقال «خذ بيدي».. عبرت به للجانب الآخر وهناك تركني وهو يضحك ويقول «طريقك من هنا».. كررها ثم مضى.. 20 عاما وأنا أسير في الاتجاه الذي أشار إليه الرجل.. ظننت أنني أعبر به والحقيقة أنه هو من عبر بي.

6
الحزن، سيد أنيق دومًا لا يظهر إلا مرتديًا ثيًابا أصيلة، محبوكة، داكنة، تلائم السهرات، هو يكره الشمس لأن نورها يبدد بهاءه، أما الليل فظلمته تلائمه تماما حين تصبح خلفية لصورته الشخصية، كما أنه شديد الحساسية فإذا لمح –مثلًا- ابتسامة تولد بين شفتيك توارى ليمنحكما خلوة ولو للحظة..
الجريدة الرسمية