رئيس التحرير
عصام كامل

بالباقي سرنجات!


من الأمور المثيرة للاستفزاز، الإجبار على الرضوخ للأمر الواقع، والدفع لترك الحق حتى ولو كان قرشا، في سبيل زيادة مكاسب الآخرين بشكل إضطراري.


في أحد فروع السوبر ماركت الشهيرة بمنطقة الدقي، اشتريت علبة بسكويت وكان حساب ما اشتريت ثمانية جنيهات، فأعطيت البائع 50 جنيها على أن يعيد إلي الباقي، ومن هنا بدأت مرحلة الغلاسة:

البائع: «مش معاك 8 جنيه فكة؟»

أنا: «لا وإلا كنت وفرت عليّ وعليك».

البائع: «طب خد أي حاجة باتنين جنيه لأن ما فيش فكة، أو أقولك خد ده ويبقي كده الحساب 10 جنيه، وألقى إلى بعلبة بسكويت من نوع آخر لا احتاجه ولا أستسيغه».

بدا على الاندهاش وأنا أرى أمامه في درج الخزينة أكياس من النقود الفضية: «أمال دول ايه وليه آخد حاجة مش محتاجها أصلا؟».

البائع: «مش هيجرى حاجة خد أي حاجة باتنين جنيه».

وأمام إصراري على رفض هذه المقايضة، أعطى لى الجنيهين وكان يبدو على وجهه علامات التذمر البالغ، بل أكاد أجزم أنه قد سبني في ظهري عندما انصرفت، لأني من وجهة نظره (زبون غتت وجلدة).

موقف آخر أتذكره منذ عامين وفى السوبر ماركت أيضا وكان حساب المشتروات (٥٩.٥٠ جنيه)، فأعطيت البائع (٦٠ جنيه)، وحينما فتح الدرج وجدت الفكة تملؤه، ثم وجدته يعطيني ورقة الحساب ومعها باكو لبان صغير في مقابل الباقي النصف جنيه، ولا أعلم لم أصررت على عودة النصف جنيه لأنه حقي، وتذكرت حينها سائق ميكروباص حينما أصر أن أبحث عن فكة مئة جنيه من ميكروباص آخر وهو يمشي على الطريق بسرعة كبيرة، لأني خيرته بين جنيهان فكة معي، أو التعامل مع المئة جنيه فاختار البحث عن فكة المائة لأن أجرته جنيهان وربع، ولن يتنازل عن الربع جنيه، وأسقط في يدي ولم أجد بديلا عن البحث عن فكة، فهو حقه بلا شك.

ذات مساء كنت في إحدى الصيدليات واشتريت بعض الدواء وكان المبلغ المتبقي أربعة جنيهات، وخيرني البائع أيضا أن يعطيني بالباقي إما سرنجات طبية للحقن، وإما فوارا مضادا للحموضة، وإما مسكن آلام، قائلا: «ما فيش فكة الصراحة والله أنا آسف»، وحينها اضطررت إلى شراء أحد المسكنات التي لا أحتاجها في وقتها، وأكملت فوق الأربعة جنيهات ستة أخرى إضافية كي أسترد الباقي في صورة بضاعة!.

موقف آخر على العكس مما سبق، بائع في المترو وكان يبيع ما قيمته أربعة جنيهات، وأعطيته خمسة فبحث عن الباقي في جيبه ولم يجد، فأدركت حرجه وأخبرته أني متنازل له عن الجنيه، فوجدته غادرني فجأة وظل يبحث بين الركاب عن فكة خمسة، ولم يهدأ إلا بعد أن أعطى لي الجنيه رغم مسامحتي له، وقال: «الحمد لله أنا آخد حقي وأنت تاخد حقك، لأن دي مشكلتي أنا، وربنا يجملها بالرضا ومن غير طمع».

شكرت الرجل على أمانته وحرصه، وكان الركاب بجواري يتابعون المشهد، ومن ثم بادروا للشراء منه، بعد أن أدركوا أمانته ورغبته في المكسب الحلال.

جربت أن أضع تلك الفكة في علبة بمنزلي وكلما اشتريت شيئا وكان الباقي فكة ألقيته في تلك العلبة، حتى مر شهران ووجدت أن تلك الفكة الباقية من السوبر ماركت والصيدلية والمواصلات، والتي كان من الممكن أن أتقاضاها في صورة لبان، وقطع بسكويت، مكنتني بكل أريحية من دفع فاتورة كهرباء تبلغ 98 جنيها!.

تجار وسائقون أصبحت تجري على ألسنتهم جملتين شهيرتين «مافيش معاك فكة؟»، أو «خد لك بالباقي أي حاجة عشان مافيش فكة»، وتضطرك هذه الجملة إلى التنازل محرجا عن حقك والمساهمة في زيادة مبيعات المتجر، ببيع عشرات العلب من البسكويت والحلوى الصغيرة الإضافية الموضوعة إلى جوار الخزينة، بهدف إحراج العملاء، وزيادة انتفاخ جيوب أصحاب المتاجر.

الخلاصة، ألا تقبل التنازل عن حقك حتى لو كان بسيطا تحت ضغط الإحراج، إلا إذا تم هذا بطيب خاطر وسماحة نفس منك، فلو أعطى كل منا الآخر حقه كاملا في أي معاملة لزاد الرزق بالرضا، وزادت المحبة والألفة، وحسنت السمعة، وحينها سنلفظ رويدا رويدا من أرزاقنا جرثومة الفهلوة.
الجريدة الرسمية