رئيس التحرير
عصام كامل

محمود حافظ يكتب: الأفكار المستبدة

محمود حافظ
محمود حافظ

«يقولون إن الفكرة هي كل ما تردد على الخاطر من تأملات وآراء، وما يخطر في العقل البشري من أشياء أو حلول أو اقتراحات مستحدثة أو تحليلات للوقائع والأحداث، والفكرة هي نتاج التفكير، والتفكير هو أحد أهم مميزات البشر فقدرة الإنسان على توليد الأفكار يتوافق مع قدرته على الاستنتاج والتعبير عن النفس»، وأنا هنا لست بصدد أن أحكم بأن هذا التعريف جامع مانع، وإنما فقط من أجل أن أسلط الضوء على القضية التي أطرحها.


يا سادة “الأفكار التي نعتنقها مستبدة”، سواء كانت أفكار سلبية أو إيجابية، فالفكرة أشبه بالومضات، سريعة فقط ثم تتم ترجمتها عن طريق الحواس، إذا ما سيطرت على شخص ما استحوذت على عقله ومشاعره واحتلت كيانه كله، فلا تدع له فرصة لاستبدالها أو العدول عنها.

وبالتأكيد هناك علاقة قوية بين الثقة بالنفس وبين الأفكار الإيجابية، وفي المقابل بين الأفكار السلبية وبين ضعف الشخصية، فلو انك كنت واثقا من نفسك..من قدراتك.. من مواهبك.. وراض عن نفسك ومتقبل نفسك كماهى.. وتمتلك رؤية معتدلة في تقييم الأمور العامة في واقعك ومجتمعك، فأنت قد قطعت 80% من رحلتك نحو تفكير إيجابي بناء بل وقد تخلصت من بعض الهواجس والأفكار السلبية القليلة المنزوية في ذهنك وعقلك لن تجد صعوبة أبدًا في إقصائها وإبعادها.

هنا يجب أن نشير إلى موضوع مهم وهو ما ذكره “هاورلد شيرمان” وغيره من الباحثين المتعمقين في التفكير الإيجابي الخلاق الإبداعى يتلخص هذا الأمر في أن مراقبة الأفكار والسيطرة على الخواطر هي مهمة شاقة وليست أبدًا سهلة وكمية الأفكار والخواطر التي ترد علينا لا شعوريًا هائلة، لذا نحن نملك مراقبتها وإقصاء السيئ منها وقبول الجيد منها.

هل تصورت مثلًا حجم الكارثة التي تجلبها الأفكار السيئة إذا ما سيطرت على الإنسان ؟..، للوقوف على حجم هذه الكارثة يمكنك معرفته من خلال ملابسات انتحار بعض الشخصيات الشهيرة، “يوكيو ميشيما” هو الاسم الأدبي للكاتب الياباني “كيميتاكي هيراوكا” (1925-1970) أكثر أدباء اليابان موهبة غزارة في الإنتاج ترشح لجائزة نوبل للأداب ثلاث مرات، لكن اللافت للانتباه في أدب “ميشيما” في أعمال عديدة الانتحار بطريقة الـ(سبوكو)،ففي روايته (اعترافات قناع) التي تمثل سيرته الذاتية، نتلمس فيها تقبله منذ شبابه لفكرة الموت المبكر، بالانتحار!..، أما في رواية (خيول هاربة) فيمكننا متابعة بطله الذي يبدي استعدادا وحماسا مفرطا للموت في سبيل أفكاره، وفي النهاية يقدم بإصرار على قتل نفسه، وقد عجل من اندفاع “ميشيما” على الانتحار بطريقة احتفالية “وهي طقس من الطقوس المعروفه عند فلسفة الساموراى”، مجمل الوقائع والأحداث السياسية الخطيرة التي رافقت هزيمة بلاده، بما فيها فترة الاحتلال الأمريكي في أعقاب الحرب العالمية الثانيه، وما تبعها من معاهدات أبقت إمبراطورية اليابان تحت سيطرة النفوذ الأمريكي،و هو مالم يتقبله “يوكيو ميشيما” والمفاجأه أن طريقة الانتحار كان نسخة طبق الأصل من انتحار بطل مسرحيته الذي أجهز على نفسه مستخدمًا طريقة سيوكو!!.

وأيضًا يمكننا معرفة ما تجلبه لنا الأفكار السلبية خلال ملابسات انتحار الكاتب النمساوي الأصل “ستيفان زفايغ” (1881 – 1942) ولد في فيينا وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة بأطروحة عن الناقد الفرنسي الشهير “تين”، كما فاز بجائزة “بوير نفليد” للشعر، وهي إحدى الجوائز الرفيعة في النمسا وقت ذاك، كتب الشعر وترجم بعض الأعمال الأدبية وألف قصص وروايات ومسرحيات.. قال عنه الروائي الفرنسي “غول رومانس”: “أنه أحد المفكرين السبعة الأكثر عمقًا في أوروبا بأسرها”، في 23 فبراير 1942، أقدم الكاتب النمسوي “ستيفان زفايغ” وزوجته الشابة على الانتحار معًا في منزل ريفي في البرازيل، كان في أبعد مكان ممكن عن وطنه الأم، وقد شعر بالإقصاء التام عن عالمه بعدما وقعت أوروبا تحت الاحتلال، وأحرق النازيون كتبه، ليجد نفسه هائمًا بين دول وجنسيات متفرقة بحثًا عن ملاذ أمن، فقدت روحه الرغبة في البقاء على قيد الحياة، ولم يكن باستطاعة أحد أن يغيّر قناعته التامة بأن «الحضارة التي ولدنا فيها أصبحت على وشك الانقراض»، فآثر الرحيل عن هذه الدنيا مع محبوبته «لوت»،سطَّر”زفايغ” بيده 192 رسالة لأصدقائه يشرح لهم فيها أسباب انتحاره!!.، في مذكراته يكتب “ستيفان زفايغ” عن نهاية العالم حيث يمكن التنقل بين الدول من دون جوازات سفر، ومن دون أن يتوجب عليك تبرير وجودك، وفي رسالة إنتحاره التي شكر فيها حكومة البرازيل وشعبها على استضافته كتب يقول: «لكن الذي ناهز الستين من العمر يحتاج إلى طاقات غير اعتيادية كى يبدأ بداية جديدة بحق ما لدى من طاقات إستنزفتها أعوام التشرد المديدة، لذلك من الأفضل في اعتقادى أن أختتم حياتى في الوقت المناسب، وأنا منتصب القامة، حياة كان العمل الفكرى فيها يعني الفرح الصافى، والحرية الشخصية النقية، والخير الأسمى على الأرض، تحياتي إلى كل أصدقائي، عسى أن تتسنى لهم رؤية الفجر بعد هذا الليل الطويل، وها أنا ذا أتقدمهم وقد فرغ صبري تمامًا».

فلاديمير ماياكوفسكي كاتب وشاعر من روسيا من مواليد 19 يوليو 1893، بدء كتابة المسرحيات والقصائد وهو في عمر صغير كان يبلغ نحو 15 عاما، كما كان شغفه للأدب الماركسي حيث إنه شارك في العديد من أنشطة حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، وحُبس ثلاث مرات بسبب انشطته السياسية، من قصائده المشهورة غيمة في سروال، الناي عامودًا فقيرًا. أنهى حياته في 14 أبريل عام 1930 وذلك بإطلاق رصاصة على قلبه تاركًا رسالة وداع مليئة بالخيبة.

لذا فإن كل الأفكار التي نعتنقها غالبًا سوف تحدث، والمسألة مسألة وقت فحسب وقد تطول المسافة بين ما نفكر به وبين وصولنا إليه لكننا في النهاية سنصل، الفيصل في الأمر فقط هو قدرتنا على محاولاتنا الدؤوبة لتعديل أفكارنا حتى لا تكون النهايات مؤسفة.
الجريدة الرسمية