رئيس التحرير
عصام كامل

بـ «الجلابية والخمار».. حكايات 25 عاما لشريفة الأنصاري مع العزف على «الفيولا»

فيتو

عقب أداء صلاة الفجر في غرفتها الكائنة بالطابق السفلي بمعهد النور والأمل الموسيقي للكفيفات بحي مصر الجديدة، تتجه "شريفة فتحي الأنصاري" 57 عاما، إلى السلم الداخلي للمبنى، قاصدة مملكتها الخاصة ذات المساحة المحدودة والأثاث البسيط الذي يليق بموسيقية كفيفة وعازفة "فيولا" مخضرمة.


تعكف الخمسينية طوال النهار على إنجاز مهام تحويل النوتة الموسيقية من الكتابة العادية إلى "طريقة برايل": "أنا هنا من 35 سنة وأكثر شغلتي بجانب عزف الموسيقى وتعليمها للبنات الكفيفات في المدرسة هي إعداد النوت الموسيقية والمناهج وكتابتها باستخدام مكتبة برايل الخاصة بي، أنا مقيمة في المعهد إقامة دائمة باروح بيتي في عين شمس خميس وجمعة فقط، طوال الأسبوع موجودة في مكتبتي ومع آلتي الموسيقية، بعد الانتهاء من التدريس للطالبات في المدرسة".


"كلارينيت.. ديميندس التمرين رقم 12.. صفحة رقم 19"، تردد في صوت منخفض بينما تمرر أصابعها على الورقة البيضاء التي انتهت لتوها من رسمها باستخدام اللوح الخشبي والمسطرة مدببة الحواف، أو مكتبتها الخاصة كما تسميها، تقرأ بتأنٍ ما تنقله عن النسخة الأصلية التي تنسخها عشرات المرات يوميا، لتصبح جاهزة للاستخدام في حصص الموسيقى بالمعهد والمدرسة:"مع الوقت والتمرين وكثرة نسخ النوت الموسيقية وتحويلها من الكتابة العادية لكتابة برايل، مع دراستي للموسيقى، أصبحت بمجرد أن أضع أصبعي على الحرف وهو محفور بعرف ميزانه ومكانه وتابع لأي مقطوعة وأي درس".


في هذه الحجرة الصغيرة تعلمت شريفة كيف يمكنها وبمفردها أن تكون المصباح الذي ينير الطريق أمام آلاف الفتيات اللاتي يتعلمن الموسيقى وفنونها سواء الوتريات أو آلات النفخ، فلا يمكن لنوتة موسيقية تتدرب عليها فتيات المدرسة أن تخرج إلى النور دون أن تمر من بين أصابع شريفة: "كل مدرسة بتحدد لي القطعة أو التمرين أو الصفحة اللي محتاجة تدرسها للبنات وأنا بنسخ منها الكمية المطلوبة، من سنة أحضروا لي فتاتين علمتهم يشتغلوا معايا، أحيانا لو النوتة طويلة ممكن أوصل لشغل عليها ثلاثة أيام وأكثر".


بين المائدة متوسطة الحجم والمكدسة بعشرات الورقات البيضاء التي انتهت شريفة من تحضيرها، والدولاب المعدني الكبير المجاور لباب الغرفة، تتلخص مسيرة فنية عمرها يمتد لنحو 35 عاما، حصيلة مجهود أكثر من ثماني ساعات عمل دون انقطاع، ففي هذا الدولاب الكبير تحتفظ شريفة بنوت قد تعود لأكثر من ثلاثين عاما، يميل لون أطرافها إلى الإصفرار قليلا، يتوسطها فهرس مخطوط على طريقة برايل ذو غلاف أسود: "في الفهرس ده موجود كل نوتة اسمها إيه وموجودة فين في الدولاب علشان في أي وقت البنات أو المعلمات يحتاجوا ليها وقت تدريب مفاجئ أو حفلة هما مقبلين عليها يلاقوها"، في الأعلى تتواجد كافة المقطوعات الموسيقية الخاصة بآلات النفخ الأصل والنسخ المنقولة عنها، وفي الرف الذي يليه تتواجد نوت الوتريات من كمان وتشيللو وفيولا وغيرهم.

تضع شريفة في أعلى الملف ورقة صغيرة تحمل أيضا بخط برايل رقم المقطوعة وعدد الصفحات والكتاب الذي تنتمي إليه، بل وإلى أي فنان تنتمي تلك المقطوعة: "هنا موسوعة صغيرة بأقل الإمكانات اللي تناسب خبرتي وسني، المكتبة دي قبل ما آجي كانت عبارة عن دولاب صغير كل حاجة مختلطة ببعضها".

بين شريفة و"الفيولا" حكاية "حب" لا تنتهي

خلال نهاية ستينيات القرن الماضي وبينما كانت شريفة في السابعة من عمرها، أدرك الأب ذو الأصول الصعيدية، والذي كان يعاني من انعدام القدرة على الرؤية أيضا نظرا لوجود مرض وراثي بالعائلة يولد أفرادها مصابون بانفصال الشبكية وانحسار الرؤية مع تقدم العمر، الحس الموسيقي الذي كانت تتمتع به الابنة منذ كانت في الشهور الأولى من عمرها، كأنها معجزة أو طفرة غردت خارج سرب العائلة:"كانت أمي تحكي لي إني وأنا بعمر الست شهور أو أقل أبويا بينيمني بجواره على السرير ويشغل أم كلثوم جنبي ومع الوقت ولما قربت على إتمام العام، لاحظوا تفاعلي الشديد مع موسيقى الأغنية، ورغبتي في تقليدها بإصدار أصوات غير مفهومة".


شبت شريفة وتوالت الأعوام ومازالت تغذي أذنيها وروحها بموسيقى أغنيات الست، في حين كانت بالفعل قد التحقت بمدرسة النور والأمل للكفيفات والتي تأسست في منتصف الخمسينات، التحقت وبعد إلحاح على الأب بمعهد "الكونسرفتوار" بعد دراسة البيانو والكمانجا وكانت في ذلك الحين في العشرين من عمرها، ظلت بالمعهد نحو ثلاث سنوات تمارس العزف على آلة الكمان، حتى عادت إلى معهد النور والأمل مرة ثانية، عملت بجانب عزفها على آلة الكمان في مكتبة برايل، تعلقت روحها بآلة الفيولا أرادت أن تترك الكمان وتتعلم العزف عليها بعد أن اشترى لها أحد أساتذتها واحدة خاصة بدلا من المملوكة للفرقة فتستطيع في أيام العطلات أن تصحبها معها إلى المنزل: "الأمر أخد مني عشر أيام جلوس أمام الراديو وقراءة في كيفية العزف عليها، ومن وقتها للنهاردة بعزف فيولا وتركت الكمان والبيانو".


"أنا متجوزتش ولا خلفت، الفيولا هي الحاجة الوحيدة اللي طلعت بينها من الدنيا".. هذه العبارة لم تكن مجرد كلمات تتفوه بها شريفة لتعبر بها عن شدة تعلقها بآلتها الوترية، في زيها الشعبي البسيط الذي يتمثل في عباءة ملونة وخمار يغطي معظم جسدها، تحتضن شريفة "الفيولا" بشدة تحنو عليها حين تخرجها من الحافظة الجلدية الخاصة بها، كأنها وليد تخشى عليه أن يمسه طرف الهواء: "بعاملها كأنها بنتي يمكن ناس كتير بتستغرب إزاي عازفة فيولا وموسيقية بلبسها وشكلها الكبير ده، لكن الفن شيء جوهري مش بالمظاهر، أنا سافرت برة مصر بنفس مظهري وأحيانا لما سافرنا النمسا واليابان والكويت وغيرهم لإحياء الحفلات بصحبة فرقة النور والأمل الموسيقية كنت بلبس فستان طويل وحجاب"، أما في المعهد أو التدريبات التي كانت تتم للحفلات المحلية داخل مصر، كانت شريفة تحرص على أن تخرج بهذا المظهر البسيط الذي يجعل كل من يراها يجد فيها روح أمه وليست روح عازفة الفيولا فحسب.


أكثر من 24 عاما قضتهم شريفة تعزف على الفيولا وتدللها وتحرص على تنظيفها كلما لمستها ذرات الغبار أو شعرت أن الأوتار لم تعد بالقوة الكافية: "بستخدم للأوتار السبيرتو علشان تفضل مشدودة، بقالي سنة منقطعة عن الفرقة بحكم سني وتعبي الجسدي، إلا إني مازلت بعزف على الآلة للطالبات لو احتاجوا مساعدة، بغني للطالبات الجدد في الصف الأول الابتدائي"، أصبحت المرشد الأمين لطالبات المعهد والمدرسة، سواء فيما يخص العزف على إحدى الآلات الوترية أو تعلف تحويل النوتة الموسيقية إلى طريقة برايل بدلا من الطريقة العادية، حتى يتسنى لهن العزف والتعلم دون عناء".
الجريدة الرسمية