رئيس التحرير
عصام كامل

سترات الغضب.. انحياز الرئيس للكبار يدفع الفقراء للانتحار

فيتو

اندلعت صدامات السبت قرب الشانزليزيه وسط باريس بين قوات الأمن ومحتجي حركة "السترات الصفراء" الذين خرجوا للتظاهر، في إطار فصل جديد من الاحتجاجات المتواصلة منذ نحو أربعة أسابيع.


كما تم توقيف أكثر من 500 شخص في العاصمة الفرنسية وفق ما أعلن رئيس الحكومة إدوار فيليب.. الاحتجاجات التي حاولت الأجهزة الفرنسية إلصاقها بتيارات مختلفة بين اليمين واليسار، نبتت في أرض خصبة مهدت لها قرارات الرئيس إيمانويل ماكرون المنحازة لـ"كريمة المجتمع" – رجال الأعمال والنخبة- تحت شعارات العولمة، في المقابل اتخذ إجراءات ضغطت على الأسر المتوسطة والفقيرة حتى وصلت في نهاية المطاف لصدام وحرب شوارع انتقامية، بسبب المعاناة في حالة أشبه بعملية انتحار جماعى بدون مبالاة برصاصة طائشة تستقر في الصدور.


واستخدمت عناصر الأمن قنابل الغاز في محاولة لتفرقة المحتجين دون جدوى، وسط صدامات عنيفة قرب قوس النصر، وذلك بعدما أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية الاستعانة بـ89 ألف عنصر أمني لمواجهة تلك الاحتجاجات.

واندلعت الاحتجاجات في نوفمبر بسبب الضغط على ميزانيات الأسر بضرائب الوقود، ومنذ ذلك الحين تحولت المظاهرات إلى تمرد واسع شابه العنف في بعض الأحيان. ولا يوجد زعيم رسمي لحركة الاحتجاج مما يجعل من الصعب التعامل معها.

وتقول السلطات: إن الاحتجاجات اختطفتها عناصر يمينية متطرفة، وعناصر فوضوية تصر على العنف وتثير الاضطرابات الاجتماعية، في تحد مباشر لماكرون وقوات الأمن. ومع ذلك، اضطر ماكرون، للقيام بأول تنازل كبير في رئاسته بالتخلي عن ضريبة الوقود. وتراجعت شعبية ماكرون في استطلاعات الرأي.

ورغم هذا التنازل، تواصل حركة "السترات الصفراء" المطالبة بتنازلات أكثر من الحكومة، بما في ذلك خفض الضرائب وزيادة الرواتب وخفض تكاليف الطاقة وحتى استقالة ماكرون. ولم يتحدث ماكرون علانية منذ أن أدان اضطرابات يوم السبت الماضي أثناء قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين، لكن مكتبه قال إنه سيلقي كلمة للأمة في مطلع الأسبوع.

وهذه هي أكبر أزمة تواجه ماكرون منذ انتخابه قبل 18 شهرا، وقد ترك لرئيس الوزراء إدوار فيليب التعامل مع الاضطرابات وتقديم تنازلات، لكنه يتعرض لضغوط للتحدث، بينما تحاول إدارته استعادة زمام المبادرة بعد ثلاثة أسابيع من الاضطرابات الأسوأ في فرنسا، منذ أعمال الشغب الطلابية عام 1968.



وتسبب قيام الشرطة بإيقاف نحو 150 طالبا بتهمة "المشاركة في تجمعات مسلحة" في إفلين، وهي مدينة صغيرة تبعُد عشرات الكيلومترات عن العاصمة باريس إلى جهة الغرب، في عاصفة غضب وتأجيج الاحتجاجات.

وبحسب الناطق باسم الشرطة في المدينة، فإن عملية الإيقاف تمّت بعد يومين متتاليين من الاحتجاجات التي قام بها طلاب المدارس الثانوية، والتي شابتها أعمال عنف وإحراق سيارات وتكسير بحسب ما نقله مراسلو وكالة الصحافة الفرنسية.

ويشهد الوسط الطلابي في فرنسا حالة من الاحتجاجات، حيث انضمت بعض المجموعات إلى تحرك "السترات الصفراء".

وانتشر الفيديو على الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي أول أمس، الخميس، ونرى فيه عشرات الطلاب راكعين أرضًا، وواضعين أيديهم أعلى رؤوسهم، في صورة ذكرت البعض بصور أسرى الحرب، والحرب العالمية الثانية.

من جهتها علّقت وزارة الداخلية على الفيديو في بيان أصدرته أمس جاء فيه "الطلاب الذين تمّ إيقافهم متهمون بالتحضير لأعمال عنف وتكسير عن سابق إصرار وتصميم".


وبحسب الكاتب والخبير في السياسة الدولية، أحمد محمود عجاج، فإن فرنسا على خلاف بقية الدول الأوروبية، لها تاريخ مميز مع مفهوم الدولة؛ فالدولة بالنسبة للمواطن الفرنسي، بعد الثورة الفرنسية، هي بديل للكنيسة والملك، وضامن حقيقي لشعار: الحرية والإخاء والمساواة، بالتحديد في المجال الاقتصادي. لكن الدولة الفرنسية في عصر العولمة لم تعد تستطيع تلبية هذا الشعار، ولا ضمان مساواة اقتصادية، ولا خدمات اجتماعية سخية للمواطن، فالعولمة من تداعياتها أنها أطلقت العنان لرجال الأعمال، وأصبحوا عمليًا أسياد العالم، وساهمت العولمة كذلك في نقل الصناعات من قارة أوروبية إلى قارات أخرى في العالم بحثًا عن عمالة رخيصة. بهذا السياق العولمي شعر الفرنسيون، بالتحديد «أصحاب السترات الصفراء»، أنهم خاسرون، وأن دولتهم أصبحت تسمع وتأتمر وتخضع لرغبات الأثرياء من رجال الأعمال.

ويدرك «أصحاب السترات الصفراء» بحسب رأي حجاج في مقال له على واقع الأزمة، ما حل بدولتهم، ويعرفون أن رئيسهم ماكرون الثري والمصرفي، يحاول نقل بلادهم من اشتراكية اجتماعية إلى ليبرالية اقتصادية متعولمة. 

المحتجون واقعون بين نقيضين اقتصاديين: اشتراكية ديمقراطية اجتماعية قديمة عاشوها، وتنعموا في ظلها، وليبرالية اقتصادية جديدة تحرمهم من تلك الامتيازات، لذلك فإن احتجاجاتهم هو رفض صريح لهذا التحول الخطير. وأدرك رئيس وزراء فرنسا، بعد احتجاجات الأسبوع الثاني وعنفها، هذا التجاذب الأيديولوجي، فقال إن «الفرنسيين أظهروا غضبهم وأنه يفهم أسباب هذا الغضب، لأن الفرنسي لا يجد ما يسد حاجته، ويشعر أنه محاصر رغم كل ما يبذله من كد وجهد للحصول على لقمة العيش»! لكن تصريحه بالمقابل لا يحسم التجاذب الأيديولوجي، بل يؤكد تفهم الحكومة الفرنسية لمعاناة الفرنسيين من أصحاب الدخل المحدود، ويبقى الموضوع معلقًا! تصريحه مجرد تفهم لا غير.


وسياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإصلاح قانون العمل أو السكك الحديدية أو نظام الضرائب على مدى الـ 18 شهرا الماضية، لم تجد مقاومة تذكر.

وكان ضعف الرفض الشعبي لإجراءات ماكرون الإصلاحية، عاملا مشجعا له ولحكومته للمضي قدما نحو اتخاذ مزيد من التدابير لإكمال عملية الإصلاح الهيكلي، ظنا منه بأن هناك قبولا أو في أقل تقدير تفهما شعبيا لأهمية وضرورة تلك الإصلاحات والتداعيات الاجتماعية الناجمة عنها.

لكن ما إن أقدم الرئيس الفرنسي على رفع أسعار الوقود، إلا واتسعت رقعة خيبة الأمل، وتدنت شعبيته بشدة مع تزايد أخطاء الحكومة وسط العاصمة الفرنسية، وساحتها الرئيسية القريبة من قوس النصر وشارع الشانزليزيه الشهير، إلى ساحة حرب.


الجريدة الرسمية