رئيس التحرير
عصام كامل

الاستثمار في التعليم الرقمي.. وصناعة المستقبل


مع إطلاق البنك الدولي مؤشر رأس المال البشري في أكتوبر الماضي يتزامن مع حصول "بول رومر" على نوبل في الاقتصاد، لإثبات فرضية نحو التنمية الاقتصادية أن التقدم التقني ليس عاملا خارجيا، بل هو عامل ذاتي المنشأ وأصبح جزءا من معادلة النمو الاقتصادي، ونشر "رومر" مقالة في Journal of Political Economy سنة ١٩٩٠ حول “التغير التكنولوجي ذاتي المنشأ”، وقد حدد أربعة متغيرات تشكل معدل النمو الاقتصادي: الرأسمال النقدي والعمل والرأسمال البشري ومعدل التكنولوجيا في الدولة.


ولأن الاستثمار في الرأس مال البشري أصبح دافعا ويمكنه تحويل الزيادة السكانية إلى طاقة دافعة للتنمية الاقتصادية، استطاعت الصين بناء واحد من أكثر النظم التعليمية كفاءة ليصبح هناك ٧.٥ مليون خريج سنويا في ٢٠١٧، وهو ضعف عدد الخريجين في ٢٠٠٧ ليتقدم تصنيفها في مؤشر الابتكار بخمس مراكز في ٢٠١٨، متقدمة عن دول متقدمة مثل كندا والصين، بدأت تجربتها الصناعية بمنتجات مقلدة لتقدم اليوم ابتكارات صينية خالصة بناء على معايير علمية. 

أيضا تنطلق الهند إيمانا منها أن فقرها في الموارد الطبيعية مقارنة بعدد السكان لن يحله إلا نظام تعليم يحقق الابتكار والإبداع للمجتمع المحلي والدولي، لتصبح الهند أرخص سوقا للعمالة الماهرة وتتميز باللغة الإنجليزية والمهارات التكنولوجية في البرمجة والذكاء الصناعي.

إن إحداثيات العولمة أثبتت أن تفوق الدول لم يعد يعتمد على الموارد الطبيعية أو التصدير للدول، وإنما هناك عوامل أخرى نحو الازدهار الاقتصادي، ففي فنلندا وأيرلندا استطاعوا استحداث نموذج مميز رغم أن هاتين الدولتين يتميزان بقلة الموارد البشرية بسبب قلة عدد السكان ومواقعهما النائية، وقد مرت الدولتان بأزمات اقتصادية ومجاعات في تاريخها ولكنهما كانا أكثر اندماجا في الاقتصاد العالمي بتقديم نموذج تعليمي يحقق متطلبات العولمة واحتياجات الشركات متعددة الجنسيات.

دول مثل فنلندا وأيرلندا رغم إمكانياتها المحدودة تفوقت على دول أكثر ثراء، فقد استحدثت برامج تعليمية لتأهيل الأجيال القادمة نحو متطلبات العولمة والاندماج الاقتصادي، حيث ريادة الأعمال والابتكار والإبداع كاحتياجات للموارد البشرية بالشركات متعددة الجنسيات التي تمثل قطب اقتصادي عالمي في المستقبل القريب.

في ١٨٦٢ أرسلت اليابان بعثة الساموراي إلى مصر للوقوف على التجربة المصرية في بناء الدولة الحديثة في عهد محمد على باشا، وفي مقال نشر في مجلة the Atlantic عبرت الكاتبة "ألانا صمويلز" عن واقع اليابان بمقولة: "قد تجد في اليابان مناطق فقيرة ولكنك لن تجد مدارس فقيرة"، وتحدثت عن قرية أيتاتي التي تعرضت للتلوث الإشعاعي عقب كارثة محطة فوكوشيما ٢٠١١، ورغم أن أغلب المواطنين لم يعودوا ولكن جودة التعليم تنافس دولا أوروبية، على الرغم من أن عدد الطلاب لا يزيد على ٥١ طالبا بالمرحلة الابتدائية..

"إنهم ينظرون إلى الحرمان من التعليم كمسئولية اجتماعية" هكذا علق "اندرياس شلايشر" على تعامل المجتمع نحو قضية التعليم وهكذا ترسل الحكومة أفضل المعلمين والموارد إلى المدارس التي تقع في مناطق محرومة ويتدرب المعلمون على التعامل مع البيئات الأكثر صعوبة.

إن المعجزة اليابانية في الخمسينيات اتضحت معالمها عندما استطاع الشعب رغم قلة موارده وانهيار البنية التحتية والآلام النفسية للهزيمة والقنبلة النووية في تحدي الواقع وبناء مستقبله بالتفوق التكنولوجي على الشعوب المنتصرة، بل والأغرب أن الانصياع التام للاحتلال الأمريكي بدون شعارات وطنية جوفاء، وإنما تحولت المشاعر الوطنية إلى الإنتاج والعمل بعد خلوة من محاسبة النفس عما بدر من الدولة اليابانية من اعتداءات نحو جيرانها، وأيضا الخروج من الخزعبلات الدينية العنصرية نحو بناء دولة حديثة ثم تحقيق الانتصار والسيادة الوطنية بالعلم والتعليم لصناعة مستقبل العالم.

يعتبر مفكري الولايات المتحدة الأمريكية التعليم ليس مجرد طوق نجاة للاقتصاد والموارد البشرية للشعب الأمريكي إنما يمثل أيضا أحد أهم عناصر القوة الناعمة للسيطرة على العالم، وأقلها تكلفة كما كتب "جوزيف س ناي" في كتابه القوة الناعمة.

وفي فرنسا اعتمدوا على "جورج شاربان" الحائز على نوبل الفيزياء لتطوير آليات تدريس العلوم والتكنولوجيا في المدارس الابتدائية قبل عقدين من الزمان ليصنع جيلا أكثر ابداعا وابتكارا.

أن ما يدور على الساحة الدولية هو تفوق مطرد لاقتصاديات الشركات عابرة القارات على اقتصاديات الدول، وفي عام ٢٠١٦ اصبحت قائمة أكبر عشر شركات عالمية تسعة منهم تعمل في نطاق التكنولوجيا، رغم أنه في ٢٠٠٦ كانت شركات الطاقة تتصدر المشهد، بما يغير خريطة الاستثمار العالمي، في ظل احداثيات العولمة، ويضع التعليم الرقمي المعتمد على الإبداع والابتكار هو هدف النظم التعليمية في ٢٠١٨.

إن التسارع في الاعتماد على التعليم الرقمي تدفعه تعطش السوق إلى تكنولوجيات الذكاء الصناعي عالميا، مع بروز المدينة الذكية إلى صدارة الأهداف، وقد تحدثنا عنها في مقالات سابقة ومصر ستكون من أوائل الدول بالشرق الأوسط التي تملك عددا أكبر منها خلال سنوات ومنها العاصمة الإدارية.

وعن مصطلح المواطن الرقمي القادر على التعامل مع أحدث التقنيات الرقمية والذي أصبح معيارا لمستوى تأهل الموارد البشرية للدول، فقد أصبح هدفا للدول وللشركات نحو تأسيس طفرات تقنية وقد تحدثنا عنه في مقال سابق.. أن تعداد المواطن الرقمي واليتيم الرقمي أصبح بديلا لنسب الأمية للقراءة والكتابة في عهود سابقة.


في كتاب "لماذا تفشل الأمم" تحدث الكاتب عن فقدان الشعوب الشرقية القدرة في تقبل التغيير والتطوير، ولكن الواضح أن وزير التعليم "طارق شوقي" لا يعبأ بالمقاومة نحو التغيير، ويشق طريقه بثبات لأن في المهجر ٨٦٠٠٠ عالم مصري منهم ٤٢ يشغلون منصب رئيس جامعة في أهم جامعات عالمية، بالإضافة إلى ٨٥٠٠٠٠ خبير في العلوم التطبيقية لتحتل مصر المركز الأول عالميا في هذا الصدد، ولكن مصر تحتل المرتبة ١٣٩ في جودة التعليم بين ١٤٠ دولة.

لذا فإن الإصلاح الذي وضعه وزير التعليم أصبح حتميا وليس رفاهية نحو جراحة مؤلمة، بعد عقود من التراجع العلمي لإنقاذ الدولة المصرية كأحد مقومات نجاحها في ظل احداثيات العولمة من خلال تعليم رقمي يواكب إحداثيات الثورة الصناعية الرابعة، التي ترتكز على تقنيات الإنترنت والذكاء الصناعي الذي أصبح سمة من سمات العبور إلى المستقبل.
الجريدة الرسمية