رئيس التحرير
عصام كامل

الفنانة الشعبية فاطمة سرحان: زوجي علمني أصول الغناء.. وزكريا الحجاوي «أخذني فوق البيعة»

فيتو



  • الوطن العربي كله يتعامل مع التراث والفن الشعبي على أنه للزينة فقط 
  • الناس ينظرون لنا على أننا أشخاص "شعبيون" أقل منهم في المستوى
  • بعد وفاة زكريا الحجاوي انتهى الفن الشعبي ومحاولات توثيقه
  • زكريا الحجاوي افتكرناه "مباحث".. وكان يصف صوتي بـ"الفرايحي" 
  • كنا بنطبخ وننام في غرفة واحدة في مسرح "زكريا الحجاوي"
  • "لا أحد مهتم" بتوثيق أرشيفنا الغنائي الشعبي 
  • اجتماعات باحثي التراث "مكلمة ع الفاضي" ووزارة الثقافة لا تهتم بنا 
  • "مش عايزة تكريمات" من وزارة الثقافة وإنما أريد اهتماما
  • من يود أرشفة التراث الشعبي "أنا تحت أمره" رغم يقيني أنه لن يستجيب أحد 
  • ابنتي سوزان عطية اعتزلت الغناء لهذا السبب
  • كنت عضو شرف في لجنة التراث بالمجلس الأعلى للثقافة وتم تجاهلي 

مابين سماع أغاني الراديو وتقليدها وحضور الأفراح الشعبية في القرية، نشأت تلك الفتاة الصغيرة في قرية من قرى الشرقية، لتجد قلبها يخفق بحب التراث والأغنية الشعبية، حتى لعب القدر لعبته معها لتدخل عالم الفن الشعبي من باب رائده الفني الراحل زكريا الحجاوي . تلك الفتاة التي كبرت فيما بعد لتصبح الفنانة الشعبية الحاجة فاطمة سرحان، والتي تعتبر من رواد الأغنية الشعبية في مصر .. وفي حوار جمعنا بفاطمة في منزلها، استرجعنا خلاله ذكريات دخولها لعالم الفن وماوصل اليه التراث الشعبي.. دار الحوار على النحو التالي:

* خلال تكريمك الأخير بمدينة الشارقة الإماراتية لاحظ الجميع مدى الحفاوة التي أولاها لكِ الدكتور سلطان القاسمي حاكم الشارقة ودارت بينكم أحاديث جانبية طويلة.. ما طبيعة تلك المحادثات ؟

بالفعل.. لقد رحب بي بشكل فاق توقعاتي، ومحادثتنا دارت حول الفنان الراحل زكريا الحجاوي الذي اكتشفني أنا وأبناء جيلي، حيث اتضح أنه كان يعرفه معرفة شخصية، وزاره أكثر من مرة في منزله، لذلك كنا نستعيد بعض من ذكرياتنا معه.. ومن الواضح أن القاسمي شخص مهتم بالأدب والثقافة والفنون ويولي لها اهتماما ملحوظا.


*دعينا نعود لأيام الطفولة.. هل هناك شخص محدد هو من زرع فيكِ حب التراث والفن؟
"بتلقائية": ربنا.. حيث خرجت إلى العالم أحب الفن دون أن يعلمني إياه أحد، فلم يكن أحد من أهلي فنان أو يعشق الفن مثلما عشقته، وبدأ الأمر من خلال مطربي الإذاعة الذين كنت أقلد طريقتهم في الغناء، فأغني بطريقة صحيحة دون أن أعلم مقامات الغناء، وكلما ذهبت إلى عرس في قريتنا، اتجه مباشرة للفرقة التي تحيي العرس لأطالبهم بمشاركتي في الغناء معهم بشكل طفولي دون أي مقابل مادي، وبقي الحال هكذا حتى تزوجت عطية إسماعيل، وعندما تزوجت شاءت الأقدار أن يكون زوجي فنانا.

*كيف تعرفتِ على زوجك؟
بالصدفة، فقد كنت في أحد الأيام عند خالتي وفي طريق عودتنا للمنزل أنا وأمي، ومررنا آنذاك على منزل عائلة زوجي فتبادلنا السلام بحكم المعرفة والجيرة، لأفاجأ بعد عدة أيام بمجيئهم لمنزلنا لطلب الزواج، وفي بداية الأمر لم يكن أهلي موافقين على تلك الزيجة، كون زوجي وعائلته وأخته فنانين معروفين في قريتنا، ونعلم جيدًا ما يقال على الفنان في القرى في ذلك العصر، ولكن شاءت الأقدار فيما بعد أن أتزوجه.

*هل يمكن اعتبار أن زواجك هو من فتح لكِ بابا حقيقيا للفن؟
بالتأكيد، فعلى يد زوجي وعائلته تعلمت أصول الغناء والمقامات، وبدأت في فهم كيفية الغناء بطريقة صحيحة، وكانوا يصطحبونني معهم في الأعراس لأشاركهم الغناء.

*ولكن كيف تعرفت على الفنان الراحل زكريا الحجاوي المعروف أنه الأب الروحي للفن الشعبي؟
أيضا بالصدفة، حيث كان يطوف الحجاوي في القرى والمدن للبحث عن المواهب، فقابل فرقة للفنون الشعبية من قريتنا في مولد شعبي بحي الحسين واتفق على أن يزورهم في منزلهم في موعد محدد للاتفاق معهم حول الانضمام لفريقه الذي يفتتح به مسرح المقطم، وفي هذا الموعد كنت بمنزل تلك الفرقة أزورهم بالصدفة، ثم سمعنا أصوات الأطفال في الحي يصرخون "مباحث.. مباحث" واكتشفنا فيما بعد أن زكريا الحجاوي قد وصل بسيارته إلى الحي، فحسب أهل القرية أنه من الشرطة، لأنه لم تكن هناك أي سيارات بقريتنا آنذاك سوى سيارات الشرطة فقط.
وفي نهاية مقابلة الحجاوي بتلك الفرقة سألهم عن هوية "البنت الصغيرة" التي تزورهم، أي سألهم عن هويتي، فعرفوه علي فقال لي: "أنتي غاوية غنا؟.. خلاص هاتوها معاكم"، وكأنه "أخذني معاهم فوق البيعة".


*انتقلتم من قراكم إلى القاهرة بدون أماكن إقامة.. فكيف كانت طبيعة حياتكم وإقامتكم داخل المسرح؟
بالفعل لم تكن لنا منازل وقتها، لذا اضطرت جميع الفرق للإقامة والمبيت داخل المسرح، ففي الدور الأرضي كان المسرح، ومن ثم في الأدوار العليا كانت هناك غرف للفنانين، فأخذت كل فرقة غرفة لها للإقامة داخلها، وكنا نجلس فيها طيلة اليوم نمارس فيها حياتنا على طبيعتها حيث نطبخ ونأكل وننام، فكانت تقتصر الحياة على إقامة في الغرف وبروفات على المسرح، حتى بدأت كل فرقة بنقل إقامتهم إلى منازل خاصة داخل القاهرة.
واستمرت الحياة على هذا النحو لحين خروج الدكتور الراحل ثروت عكاشة من الوزارة، حيث قررت الوزارة فيما بعدها إنهاء تبعية الفرقة لها، مما أوقف أجورنا كفنانين في الوزارة، لذا اضطر الحجاوي لتوزيع إيرادات شباك التذاكر كأجور علينا بشكل يومي لتدبير أمور حياتنا.. ثم سافر الحجاوي إلى خارج مصر، فقرر بعض فناني الفرقة للعودة إلى قراهم، فيما قرر آخرون البقاء في القاهرة وتدبير معيشتهم، وكنت أنا والفنانة الراحلة جمالات شيحة وشقيقتها والحاجة الفنانة خضرة ممن بقينا في القاهرة، حيث أقمت أنا مع الحاجة خضرة بعد الانفصال عن زوجي، وأقامت جمالات وشقيقتها في منزل مستقل.


*ما المميزات التي جعلت الحجاوي يضمك لفرقته.. هل كان يصفك بوصف مميز عن الآخرين؟
جميع الفنانين الذين جمعهم كانوا شعبيين، على الرغم من اختلاف مميزات وقدرة كل صوت فينا، إلا أنه دائمًا ما كان يصف صوتي بأنه "صوت فرايحي".


*عملتي فيما بعد على أداء التراث الغنائي الشعبي.. فكيف بدأت رحلتك في جمع التراث؟
جميع الأغاني التراثية التي أؤديها هي من تراث قريتي ومدينتي، من المخزون الذي جمعته خلال طفولتي وشبابي في أعراس قريتنا، فقبل شهر كامل من عرس فتاة ما بالقرية، نبدأ أنا وفتيات القرية بالتجمع في منزل العروس يوميًا بعد المغرب ونردد الأغنيات فيما بيننا، وهو ما جعلني أمتلك مخزونا ضخما من التراث الشعبي النسائي.. وأحيانًا أتذكر نغمة الأغنية دون كلماتها فأَضيف الكلمات من عندي على نفس اللحن.


*هل تمتلكين قصصا لتلك الأغنيات؟
لا.. فمعظم أغاني التراث كانت وليدة اللحظة وارتجالية، لا تملك قصة محددة لأرويها، وعادة تكون أغنيات مرتبطة بمراحل وطقوس الزواج.


*تمتلكين إرثا غنائيا ضخما.. فكيف تحافظين عليه للأجيال القادمة؟
"بغضب" (أحافظ عليه فين.. محدش مهتم، واللي كان مهتم خلاص الله يرحمه)، فبعد وفاة زكريا الحجاوي انتهى الفن الشعبي ومحاولات توثيقه، حتى البرامج التليفزيونية القديمة التي كانت توثق الفنون الشعبية لم يعد لها وجود، وانتهت بوفاة أصحابها.


*هل تشعرين بالخوف على ما تمتلكينه من مخزون فني؟
بالطبع.. ولكن لا أعرف ماذا أفعل، وعلى الرغم من ذلك أقول دائمًا أن من يود أرشفة التراث الشعبي "أنا تحت أمره"، رغم يقيني أنه لن يستجيب أحد.


*ولكن هناك العديد من الجمعيات المعنية بالحفاظ على التراث.. فلماذا لم تلجأي إليها؟
كل تلك الجمعيات مجرد أسماء لا تحرك ساكنًا، فلن أجد منهم سوى كونهم موظفين جالسين في مكاتبهم ولا يتحركون على أرض الواقع، حتى الباحثين في التراث الشعبي يتحدثون عنه من منازلهم، ولكن لا يعلمون عنه شيئا، فأحدهم يتحدث عن آلة الربابة على سبيل المثال، ولكنه لا يعلم المواد المصنوعة منها الآلة ولا تركيبتها، لذا فهم مجرد موظفين أو باحثين أكاديميين لا يقدمون شيئا سوى الكلام والكتابة.


*على المستوى الأكاديمي هناك العديد من المؤتمرات المعنية بالتراث أقيمت مؤخرًا.. فلماذا لا يتم إشراككم فيها؟
لا أعلم.. ولكنها مجرد مؤتمرات صورية، يجلس فيها الباحثون للحديث من بروجهم عنا، رغم أنهم لا يستضيفوننا خلالها بدون أي سبب منطقي، فلا أفهم كيف يكتب باحث عن شخصية لا يعلم عنها شيئا، وكيف يكتب عني دون أن يشركني في مادته المكتوبة.


*هناك بعض المطربات يحاولن في الفترة الأخيرة غناء أغنياتك من التراث الشعبي ببعض التجديد فيها.. فهل اطلعتي على تلك الأغاني بعد تطويرها؟
سمعت بعضهم، فرأيت أنهم كمن يأتي بـ "فلاح ويلبسه برنيطة" فتكون الأغنية "ماسخة" لا طعم لها ولا مذاق، ومنهم من يطور الأغاني بشكل جيد فيكتسبون الشهرة من خلالها ونبقى نحن كصناع الأغنية الأصليين مغمورين، وهذه ليست مسئوليتهم وإنما مسئولية الدولة ووزارة الثقافة لإلقاء الضوء علينا.


*حاليًا تقومين بتدريب فرقة النيل للآلات الشعبية.. فما هي المعوقات التي تواجه الفرقة أمام تحقيق هدفها؟
نعاني في المقام الأول من عدم الاهتمام، فالفرقة من المفترض أن تكون جسر التواصل بين الشعب والتراث، ووزارة الثقافة عليها أن تمهد هذا الجسر، ولكن ما يحدث عكس ذلك، فالضوء غير ملقى علينا كفرقة فنون شعبية، والأماكن التي نقوم فيها بعمل بروفات غير مريحة، فهو مكان مكشوف وليس مغلقا، وعادة نواجه مشكلة في أيام الشتاء من الأمطار وما إلى ذلك من عوامل الطقس السيئة.

*كنتِ عضو شرف في لجنة التراث بالمجلس الأعلى للثقافة، فما رأيك في اللجان المشرفة على التراث وهل لها تأثير أم لا؟
بالفعل كنت عضوا في اللجنة، وحضرت الكثير من الاجتماعات ولكن بعد خروج الدكتور أحمد مرسي المتخصص في التراث، لم يتواصل معي أي شخص من المجلس لاطلاعي حول ما إذا كنت مستمرة كعضو أم لا، لذلك اعتبرت نفسي خارجها.
ثم إن تلك الاجتماعات لا طائل من ورائها، فكل ما يفعلونه يعتبر "مكالمة ع الفاضي ليس لها أي تأثير على أرض الواقع"، ولا أفهم كيف تكون لجنة تراث تتحدث عن الفنون الشعبية دون وجود أهل هذا الفن.


*هل تشعرين أن الباحثين ينظرون إلى الفن الشعبي ويتعاملون معه بنظرة استعلائية؟
بالطبع.. وليس الباحثين فقط وإنما الوطن العربي كله، يتعامل مع التراث والفن الشعبي على أنه للزينة فقط، وينظرون على أننا أشخاص "شعبيين" أقل منهم في المستوى.


*ولكن هناك العديد من التكريمات التي تلقيتيها من وزارة الثقافة وتلك اللجان والباحثين.. ألا تثبت تلك التكريمات العكس؟
لا نريد تكريمات ولكن نريد اهتمامهم ونظرتهم ومعونتهم في أرشفة تراثنا وإلقاء الضوء عليه.

* نظرة إلى حياتك الشخصية، لماذا أدخلت نجلتيكِ إلى نفس المجال الفني رغم معاناتك فيه؟
لم أختر لهما مجالهما، وإنما لمست فيهما حبهم للفن، وهما من اختارا الغناء، وما يدل على ذلك أنهما تخصصا في الموسيقى العربية، ولم يتعلما مني شيئا.


*ابنتك سوزان عطية اعتزلت عالم الغناء.. فما هي الأسباب وكواليس قرار الاعتزال؟
فجأة قررت الاعتزال، فلم يكن للقرار أي تمهيدات، وعندما قررت الاعتزال تلقيت الخبر من إحدى صديقاتي، فهي لم تبلغني بشكل شخصي، وعندما سألتها عن السبب قالت فيما معناه أن "كله رايح، فما فائدة أن غنيت أم لا".

الجريدة الرسمية