رئيس التحرير
عصام كامل

خاص.. أول حوار مع «عم راضي» مريض الجُذام بطل فيلم المصري «يوم الدين» المشارك في «كان»

فيتو

قبل 10 سنوات، كان المخرج المصري الشاب أبو بكر شوقي، يصور فيلما تسجيليا بعنوان "المستعمرة"، عن مشكلات مستعمرة الجذام في أبو زعبل، وهناك تعرف على راضي جمال، أحد سكان المستعمرة، وهو مريض جذام حقيقي، استعان به فيما بعد في تصوير فيلمه "يوم الدين"، الذي تم اختياره لتمثيل السينما المصرية في الدورة الأخيرة لمهرجان "كان" السينمائي، وفاز بجائزة " Francois Chalais" كأفضل فيلم يعبر عن القيم الإنسانية، على هامش فعاليات المهرجان.


داخل مستعمرة الجذام، التقينا عم راضي، مريض الجذام، بطل فيلم يوم الدين، وتحدث إلينا لأول مرة عن كواليس مشاركته في الفيلم، وحكايته مع المرض.
     

الساعة تشير إلى الرابعة والنصف عصرا، هواء ثقيل وحرارة مرتفعة، أجواء تليق بيوم شديد الحرارة من أيام صيف يونيو، الباب الحديدي الكبير يُفتح على مصراعيه، حالة الطوارئ المؤقتة تُعلن، رجال تتدافع أجسادهم نحو السيارة ربع النقل المحملة بوجبات الافطار، يظهر راضي من بين الجموع بجسده النحيل وقامته القصيرة، وملامحه الدقيقة، التي تجعدت وتآكلت على مدار اثنتين وثلاثين عاما يحكي راضي عن قصته قائلا: "أصبت بمرض الجزام (مرض جلدي) من 32 سنة، معرفش سني كام سنة دلوقتي، لا بعرف أقرأ ولا أكتب، لكن دخلت المستعمرة وأنا طفل صغير".

 قضى عم راضي أكثر من ثلاثين عاما بين جدران "مستعمرة الجذام" تلك المنطقة النائية القابعة بين حقول التين الشوكي الممتدة على أطراف مدينة الخانكة بالقليوبية شمال القاهرة ، ولم يكن يعلم أنه بين ليلة وضحاها سيتحول إلى بطل لأحد الأفلام المصرية "العالمية" "يوم الدين" والذي عُرض في مهرجان كان أحد أكبر مهرجانات السينما فى العالم.

    
منذ نحو 33 عاما، وبينما كان "راضي" ينهي عقده الأول، تبدل حال الأسرة الصغيرة التي تسكن منطقة "بني مزار" بمحافظة المنيا شمال صعيد مصر، بقع حمراء وفقاعات غريبة اللون تطفح على أصابع الصغير، يحكها بشدة فتتعاظم تأثيراتها يقول: "مكنتش عارف إيه الجذام ولا جه منين".

بأمر من الطبيب انتقل راضي بصحبة والده إلى القاهرة، ومن ثم إلى سجن شاسع المساحة، تبلغ مساحته نحو 12 ألف فدان يلقى به كل من يشتبه الأطباء في إصابته بمرض "الجذام" الناتج عن ميلاد نوع من البكتيريا بطيئة التكاثر، التي تصيب الأعصاب والقدمين واليدين، فضلا عن الغطاء العلوي لغشاء المنطقة التنفسية بالصدر، فيستفحل في عظام الكفين والأنف والقدمين مهمشا للعظام ومذيبا لطبقات الجلد، فتتحول حينها اليد إلى قطعة صغيرة من اللحم غير واضحة المعالم: "أيدي متآكلة بس بعرف أعمل شاي وقهوة لكل نزلاء المستعمرة!".

     
في التاسعة صباحا من كل يوم، يخرج راضي من منزله القائم بعزبة الباشا المجاورة للمستعمرة، متجها إلى موطنه الأصلي، حيث يقطن نحو 584 فردا من أصدقاء الطفولة والشباب، ذوي الوجوه المتقاربة والملامح التي كادت تتلاشى في ركن مظلم من ذاكرة حامليها يقول راضي عن حياته :"أنا هنا بعمل الشاي للنزلاء في المستعمرة، أنا من الناس القديمة هنا والكل عارفني، محدش بيشرب شاي وقهوة غير من إيدي".

مثلما أُجبر راضي على العيش وحيدا في غرفة العزل المجاورة لمدخل المستعمرة، دفعته ظروف مرضه، ووجهه الذي تبددت تفاصيله، فأصبحت تسبب للكثيرين النفور، فلم يجد أمامه إلا المستعمرة، بالرغم من تعافيه واقتصار الأمر على وجود الأعراض الظاهرية فقط للمرض، إلا أن معظم أصحاب العمل رفضوا انخراطه في سوق العمل الخارجي: "أنا باخد جنيه أو اثنين على كوب الشاي أو القهوة، وجبت ثلاجة حاجة ساقعة كمان"، بلهجته الصعيدية يتحدث عم راضي، عن دوره المحوري بالمستعمرة.
     

غرفة العزل التي وضع بها راضي منذ الأيام الأولى لإصابته، وبعد أن تم اكتشاف مصل إيقاف نشاط البكتيريا المسببة لنقل العدوى في عام 1984، فكان هو من أوائل المستفيدين به، باتت مخزنا لحفظ بضاعته ومعدات القهوة والشاي، ثلاجة صغيرة وسرير متهالك، جميعها متعلقات راضي التي يأتي يوميا منذ التاسعة صباحا وحتى الخامسة عصرا لبيعها وترتيبها :"أنا يوميا برتب البضاعة وبنزل العزبة اللي جنبنا اشتري البضاعة وأرجع، بفضل هنا وبروح آخر اليوم، علشان أنام وارجع تاني يوم الصبح".

في عام 2010 رحلت زوجة راضي عن عالمه، بات وحيدا يبحث عن أنيسا له، في إصرار من يخطف حياته ويقبض عليها بكلتا يديه حتى وإن كان للمرض رأي آخر!، أصيبت بتليف الكبد بمرحلته المتأخرة، كانت حينها تحمل في رحمها الابنة الأولى والأخيرة لراضي: "كنت عايز أسميها ندى لكن مفيش نصيب، أمها ماتت وهي ماتت معها في نفس الوقت".


فترة قصيرة وتزوج "نادية" الزوجة الثانية، التي لم يلبث أن طلقها بعد أشهر قليلة، لتعود وحدته مرة أخرى: "أنا اتجوزت مرتين وبفكر في الزيجة التالتة مش عيب، وأنا ليا إخواتي في البلد من حين لآخر بييجوا يشوفوني لكني عايش وحدي"".


في إحدى ليالي يونيو الماضي، كان راضي يتسامر مع اثنين من أصدقائها، ثم فوجئ ثلاثتهم بزيارة للمخرج الشاب "أبو بكر شوقي"، والذي كان يداوم على زيارة المرضى والجلوس معهم لفترات طويلة، أخبرهم برغبته في اصطحاب راضي لتصوير فيلم روائي طويل عن مرضى الجذام، ليكون بمثابة النافذة على هذا الركن الصغير من العالم، وبالفعل وافق راضي وصديقه نصر: "أخدونا 3 شهور لفينا محافظات وقرى كتيرة زي قرى الجيزة وبنها والعياط وغيرها، طول الفترة دي كنا خارج المستعمرة، بنلف في مزارع ونجوع، والناس مكنتش مستغربة شكلنا كان الأمر طبيعي والناس كلها في الفيلم كانت تعاملني باحترام وتقدير، والولد الصغير اللي كان بطل معي واسمه أوباما ما زال بيسال عليا من وقت للتاني".

 ينتمي "يوم الدين" لنوعية أفلام "الطريق"، التي يبحث صانعها من خلال البطل وقطبي الهروب والبحث الدائب، عما يفقده، فكان فقد "بشاي" المجذوم، الذي قام بدوره عم راضي، الأقارب والإخوة، ما دفعه للبحث عنهم، بعد أن قضى عمره منفيا بالمستعمرة: "الفيلم أظهرني إني ببحث عن أهلي لكن دي القصة بس مش أكتر، أنا لي أهل وبودهم ويودوني".
    


منذ أن عاد راضي إلى المستعمرة بعد انتهاء مدة التصوير، أصبح يعرف بين أصحابه بـ "الفنان"، فما إن يطأ منطقة بها إلا وتتعالى الضحكات والنداءات "إيه يا فنان" "عامل إيه يافنان"، ما يجعل راضي يتحرج من الأمر، يتحفظ في حديثه وكلماته وما يخص تلك الثلاثة أشهر، التي تحول فيها من رجل عادي، إلى ممثل عالمي، تحضر الممثلة الأمريكية "جوليان مور" حفل افتتاح فيلمه بمهرجان كان في مطلع مايو الماضي، "أنا محبتش أحضر الحفلات والكلام اللي بيحكوا عنه ده، لأني مش مهتم بحاجة!".



تدور أحداث الفيلم الروائي الطويل "يوم الدين" للمخرج أبو بكر شوقي والمنتجة "دينا إمام"، حول رجل أربعيني قبطي يدعى بشاي، مريض بالجذام منذ سنوات عمره الأولى، يخرج من المستعمرة للمرة الأولى عنوة، غير آبه لنصائح أصدقائه المرضى، يبحث عن عائلته التي تركته وهو صغير لطبيعة مرضه، ليلتقي في طريقه بطفل يتيم يدعى "أوباما"، يصطحبه معه طوال الرحلة، ليكون البحث عن الجذور هي القاسم المشترك بينهما.
        
ويعد يوم الدين هو المشاركة المصرية الثانية، بعد أن شارك المخرج يسرى نصر الله في عام 2012 بفيلمه "بعد الموقعة"، ليتنافس في المسابقة الدولية لمهرجان كان في دورته الحادية والسبعين.
    
الجريدة الرسمية