رئيس التحرير
عصام كامل

ليديا يؤانس تكتب.. «فوق قمة الانحدار»

ليديا يؤانس
ليديا يؤانس


هل تعلمون حقيقة الإنسان في هذه الأيام؟
هل تعلمون حقيقة العائلات في هذه الأيام؟
هل تعلمون حقيقة العالم في هذه الأيام؟

منذ عدة أيام كُنت على الهاتف مع صديق عُمر، كُنا نعيش في بلد واحدة هي مصر، ونعمل في مكان واحد لسنوات ليست قصيرة، الآن هو يُحادثني من إحدى العواصم العربية، أنه يذهب لإجراء بعض الأعمال لديهم، ثم يعود للقاهرة حيث إقامته وأسرته.

تحدث مُتأثرًا عن صديق له، هاجر منذ سنوات لأمريكا، كان يحيّا حياة أسرية سعيدة مع زوجته وأولاده، وحينما أصبحوا من الأثرياء زادت النِدية بين الزوجين، بدأت تظهر المطامع من جهة الزوجة، لتستحوذ على كل شئ أو على الأقل تأخذ نصف ما يملك الطرف الآخر، خلاصة الموضوع أن الزوجة خَلعَت الزوج على طريقة بلدهم الأمريكاني، وركلته خارج حياتها هي وأولادها بعد أن استحوذت على كل شئ، وأصبح هو لا يملك أي شئ من شَقا عُمره، أنه الآن رافض الحياة ويريد الموت، أنه الآن لا يملك سوى مرتبة على الأرض في حجرة مؤجرة في أحد المباني.

قلت له؛ هذا كثير الحدوث عندنا في بلاد المهجر، قال، وعندنا أيضًا في بلادنا الشرقية تحدث مثل هذه المشكلات مما يؤدي إلى تفكك الأُسرة وتدميرها، وقبل أن نُنهي المكالمة، قال، سمعت أن كندا تقريبًا البلد الوحيدة التي تحتفل بعيد اسمه "عيد الأسرة"

هل تعتقدين أن الأسرة الآن وعلى مستوى العالم ككل قد حققت ما تريده من حياة أسرية ناجحة سعيدة؟!

قلت، نعم بالنسبة لعيد الأسرة، تقريبا كندا هي البلد الأول في العالم الذي يحتفل بعيد الأسرة، وربما تأتي في القريب بلدان أخرى أسوة بكندا.

قد انطلقت فكرة هذا العيد تقديرًا لأهمية الحياة الأسرية، فبدأت مقاطعة ألبرتا تحتفل بعيد الأسرة في عام 1990، تلتها مقاطعة ساسكاتشوان عام 2007، ثم مقاطعة أونتاريو عام 2008 ميلادية، ثم تزايد الاتجاة عبر المقاطعات الأخرى، لتكون عطلة رسمية لكل الكنديين.

ونشأت كفِكرة ليوم عطلة رسمية بسبب أن الكنديين وخصوصًا بعد الكريسماس، حيث أصبح ليس هناك احتفالات تدخل البهجة على الناس، وخصوصًا أن شهري يناير وفبراير يتميزان بطقس شتوي قاسي رمادي، فيصاب الناس بالاكتئاب، فاقترحوا أن يكون يوم الإثنين الثالث من شهر فبراير من كل عام، هو للاحتفال بعيد الأسرة، فيكون إجازة طويلة من السبت إلى الإثنين يأخذها الكنديين، للسفر أو التجمع مع بعضهم البعض، لتعضيد وربط وتجديد المشاعر الأسرية، وفي هذه السنة سيكون عيد الأسرة في 19 فبراير 2018 م.

أما بالنسبة للسؤال، عن الأسرة الآن وعلى مستوى العالم ككل هل حققت ما تريده من حياة أسرية ناجحة سعيدة؟

لم أفكر في الموضوع بمفردي، بل تداولت الموضوع مع بعض الأصدقاء، وكان لابد من وضع حد أدنى للمقارنة لكي نستطيع القياس، هل العائلات على مستوى العالم الآن تسير للأمام في تقدم وتحقق نجاحًا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي أم تسير للخلف؟!

تناقشت مع بعض الأسر العربية والأجنبية، ووضعنا أساسا للمناقشة عن الأسرة منذ 40 أو 50 عامًا والأسرة في 2018 م.

قالت جارتي وهي من إسكوتلاندا؛ مهما كانت مواعيد كل فرد في الأسرة، فعلى الأقل كنا نجتمع جميعًا لتناول العشاء معًا، ثم نخرج بعد العشاء معًا لمشاهدة فيلم في السينما.

قالت صديقة أخرى من مصر؛ أن زوجها كان طبيبًا، وأحيانا يكون غير قادر على ضبط مواعيده، ولكنني كنت أصر على أن نجتمع على العشاء معًا بعد أن يأتي من عيادته، وكل فرد من عمله أو مدرسته، أما الأطفال فكنت أعطيهم وجبات خفيفة، لكي يستطيعوا الانتظار حتى يعود زوجي ونتناول العشاء معًا، وبعد ذلك كُنا نجلس معًا لمُشاهدة مسلسل في التليفزيون، وأحيانًا كنا نجلس حول الأب، وكل فرد يقول ما يريده للآخرين، والذي لديه مشكلة يطرحها على الجميع أو الذي لديه رأي يقوله للمشاركة مع الآخرين، وهكذا كنا جميعا نشعر بالراحة والتقارب والتآلف في الأسرة.

قال صديق من البحرين؛ أنه في منتهى الأسى، لما وصلت إليه العائلات الآن من تفكك ودمار هنا في بلاد المهجر، البنت تصرفت تصرفا خاطئ فصفعتها باليد على خدها اعتراضًا على ردودها غير المهذبة، البنت طلبت البوليس، أخذوها لمكان مثل الملجأ لمعالجتها نفسيًا، وأنا وضعوني بالسجن لحين الانتهاء من الاستجوابات والتحقيقات، أنا لست شريرًا ولكن في بلادنا هذا فقط لتعليم وتهذيب الأولاد، ولكن يبدو أن اختلاف الثقافات أظهر تأثيره السيئ على العلاقات الأسرية!

قلت لأصدقائي؛ حينما أنظر للمقارنة بين الأسرة منذ 40 أو 50 عامًا والأسرة الآن في 2018 م، أجد أن الأسرة منذ 40 أو 50 عامًا، كانت تعيش في زمن مُمكن أن نُطلق عليه "الزمن الجميل"، الأسرة كانت تعيش على مساحة مُسطحة سواء في حجرة تحت السلم، أو في شقة متواضعة أو فاخرة، أو تعيش في قصر فخم وضخم، كل فرد في الأسرة يجلس مع باقي أفراد الأسرة يراهم ويرونه لأنهم يجلسون على نفس المستوى، كل فرد يهتم بالآخرين، يبذل أقصى مافي وسعه لإسعاد الآخرين ويشاركون بعضهم في كل شئ الأكل والشُرب وممارسة الهوايات المُمتعة، حتى ولو كان الجلوس الساعة خمسة بعد الظهر للاستماع لأغاني الفنانين الكبار وعلى رأسهم أم كلثوم.

وحينما أنظر للأسرة اليوم أجد المقارنة على النقيض وصعبة جدًا، أتخيل أفراد الأسرة بالرغم من أن البعض منهم يعيشون في نفس المساحة السكنية، ولكنها تبدو لي وكأنها عبارة عن تل أو جبل ذي قمة، ثم منحدر يبدأ من القمة حتى الوصول إلى الأرض، أتخيل أفراد الأسرة، وَهُمّ عالقون على قمة ومنحدر الجبل، كل فرد يحاول أن يثبت أقدامه في مكانه، ولكن عينيه على القمة ويحفر بأظافيره للوصول إلى القمة بأي شكل، أنه يرى نفسه فقط، ربما لا يرى أفراد الأسرة العالقين على الجانب الآخر من الجبل أو التل!

العائلات الآن أصبح كل فرد فيها يبحث عن ذاته، يعني "أنا ومن بعدي الطوفان"، جمدت المشاعر، وأصبحت المحبة فاترة، قد يجتمعون مع بعضهم في عطلة رسمية، فتجدهم مع بعض وفي نفس الوقت ليسوا مع بعض، كل واحد عينه على تليفونه أو التابليت!
كنت في كافية، شاهدت طفلا لم يتجاوز السنتين ومعه تابليت ويستخدمه أحسن من أي شخص، والأب اطمأن على أن الطفل مشغول عنه بالتابليت وهُوّ بدأ يركز على أشياء أخرى!

أيضًا في مشهد آخر كنت موجودة بأحد محال الأكل ووجدت مجموعة من الناس، في الغالب هُمْ عائلة واحدة، ولكنها تشمل نحو 3 أو 4 مراحل عمرية، تجد امرأة كبيرة في السن اقتربت من المائة، وشابة تجلس بجانب المرأة العجوز وكل بضع دقائق اسمعها تقول "Grand Ma" يعني يا جدتي، وتكررها بشكل مستمر، أنها تهتم بعناية شديدة وتتابع الجدة، هل تريد أن تأكل أو تشرب أو تذهب إلى التواليت، أنها مهتمة جدًا بالجدة وهذا شئ جميل يعني أنه مازالت بعض الأسر تعيش الزمن الجميل مع زمن قمة الانحدار، في الغالب هذه الشابة أم لطفل صغير لم يتجاوز عُمره السنة، تحمله امرأة ربما تكون أم الشابة، يعني جدة الطفل، وفي المشهد رجل متوسط العمر يدغدغ الطفل ويلاعبه، ربما هو أبو الطفل، ورجُل أكبر في العمر ربما جد الطفل، هذه الأسرة استطاعت الحفاظ على الروابط الأسرية والمحبة بالرغم من تواجدها في زمن قمة الانحدار.

نعم أنهم وضعوا عيدًا للاحتفال بالأسرة وأفراد الأسرة، لأنهم يهتمون ويخافون على العائلات من الضياع، العائلات أصبحوا على قمة الانحدار الأخلاقي والثقافي والاجتماعي، بسبب عدة عوامل منها التكنولوجيا والاستخدامات الواسعة الانتشار مثل الأنترنت والكمبيوتر، بالتأكيد أنا لست ضد التكنولوجيا وأقدرها ويجب تقنينها ولكن يجب الحذر منها.

سأختم هذا المقال بهذه القصة الحقيقية؛ سيدة لديها أولاد ليس عندهم استعدادا لأن يتجاوبوا مع بعضهم البعض، يستخدمون المسينجر في كل تعاملاتهم، الأم والأب اشتاقوا أن يلتقوا مع الأبناء وجهًا لوجه، يتبادلون معهم التحيات والقبلات بدلًا من المسيج من على التليفون، أخيرًا قررت الأم أن تتخذ إجراءً عنيفًا، جمعت كل الأبناء للعشاء في المنزل وبدلًا من تقديم الطعام، جمعت كل التليفونات من الأبناء، وفي حديقة المنزل بدأت بوضع تليفون على جزء من الطوب مبني في وسط الحديقة، وصوبت بالبندقية على التليفون، وبالتوالي كسرت كل تليفونات الأولاد، كسرتهم أمام أعينهم وقالت لهم؛ كان لابد أن أحطم هذه الوسائل والأدوات إللي بدأت تجرفكم إلى قمة الانحدار!

أنني أصرخ لكل الأباء والأمهات، نحن في زمن قاسي بسبب الرتم السريع والكل يلهث للتشبث بقمة الهرم ويدوس على الآخرين، أنه يدوس سواء بقصد أو غير قصد على أقرب ما له مُعتقدًا أنه يفعل الصواب!

أنني أصرخ للكل؛ حذار من التكنوجيا فهي سلاح ذو حدين، بلا شك مطلوبة ولكن حذار من أن تجرفكم من القمة إلى الإنحدار!

أنني أصرخ للرب؛ عائلاتنا في كل مكان في يمينك احفظهم من الضياع والدمار، نريد عائلات قوية سليمة سعيدة تُنجب عُظماء.
الجريدة الرسمية