رئيس التحرير
عصام كامل

التائبون المنبوذون

وصل إلى منتصف العقد الرابع من عمره، قضى وقتا غير قليل في السجون بسبب انتمائه إلى جماعة الإخوان، داخل السجن تدارس المواقف وكان قبلها قد أعيته طريقة جماعة الإخوان عندما تصدرت المشهد في مصر بعد مبارك، لم تكن جماعة الإخوان قد سيطرت على كل خطرات قلبه وعقله..كان لديه بقية تمرد.. تساءل ولاحظ أن استفهاماته بلا إجابات منطقية.. ما الذي يجعلنا نمارس ما كانت الأنظمة الشمولية تمارسه؟! لماذا نقصى الجميع ونخطط للتربع على كل مفاصل البلاد؟! لماذا نمارس نفس الأطر التي كان يمارسها مبارك ومن كانوا قبله؟!

 
سقطت جماعة الإخوان في مستنقع التناقض ومارست كل ما كانت تعارضه والشاب القروى يدور بين أفكار الجماعة وبين خيط يتمرد داخله.. يشده العقل إلى رفض ما تجنح إليه عواطفه.. انتهى إلى أن جماعة الإخوان ليست بيت الخلافة.. تدارس أكثر.. هل فعلا كانت هناك خلافة إسلامية بعد الخلفاء الراشدين؟

وسط معمعة الأفكار التي نهشت "دماغ" صاحبنا، كان قد وصل إلى قرار غير أن قوات الأمن كانت قد وصلت إليه قبل إعلان قراره.. غُيب في السجون وعاش تجربة أكثر عمقا فانتهى إلى أن جماعة الإخوان سرقت منه أحلامه، احتلته وهو طفل صغير وآن الأوان لكى يتحرر، تحرر الولد من كل ما صبوه صبا في عقله وهو صغير وهو الآن يفكر بشكل مختلف.. استعاد استقلال عقله وحرر أفكاره.

يناير.. ثورة عظيمة لشعب عظيم

لاحظ السجان أن الولد لم يعد كما كان فكرا وإيمانا وتدبرا، ناقشه كثيرا وراقبه أكثر فكان القرار.. الإفراج عن حبيس أفكار جماعة الإخوان ليصبح مواطنا طبيعيا من حقه أن يعيش بيننا ويحيا كما نحيا، لم يتحسر كثيرا على أيام السجن التي قضاها بين أسوار من الطوب والأحجار، بل أخذته كثيرا فكرة سجن الأفكار الذي أضاع عليه عمرا طويلا، قضاه تحت نير الوهم والخيالات المريضة.. كان ولايزال "يعز"؛ عليه استسلامه لمحتل غاشم لا يراعى دينا ولا دنيا.

في قريته الصغيرة كان الترحاب بعودته قاصرا على الأب والأم والأشقاء وربما بعض الأعمام والأخوال.. نعم كانت أسرته الصغيرة أكثر فرحا وترحابا بعودته إلى دار كانت حتى وقت قريب تحيا الشجن والأحزان والهواجس والمخاوف على شاب من شبابها اختطفته الجماعة فكان مصيره خلف أسوار مجهولة النهاية.

بعد أيام من العودة يحاول الشاب العائد إلى جماعته في القرية التي كانت قديما واسعة باتساع الكون غير أنه لاحظ هروب الناس منه وتحذيرات الآباء لأبنائهم من التعامل معه.

يحاول الشاب العائد من تجربة استعمار و"استغفال" طالت به أن يكون طبيعيا مع حالة الرفض التي يشعر بها ممن حوله، زملاء الابتدائى يهربون منه وتلاميذ الإعدادي يتخوفون من القرب به، ورفاق العمر والجيران وزملاء ملعب الكرة.. الجميع لا يرغب في التعامل معه.
يشعر التائب أن الله دعمه في استعادة أفكاره وأن السجان تفهم ظروف اختطافه، ولكن الأهل بالمفهوم الواسع يرفضون ذلك وبشدة.. يخشى الشاب العائد من تجربة الغربة الفكرية أن يناقش رفاق يهربون منه خوفا من الصدام الذي لم يعد يؤمن به فيحاول مرة تلو الأخرى.

اليوم العالمي للأخوة الإنسانية

يعود إلى الدار.. دار العائلة الصغيرة يرتب أفكاره فلا يجد إلا مكتبة انتقاها بعد عودته، فصرف منها الغث واحتفظ بالثمين.. يعكف على القراءة حتى يغالبه نعاس قلما يأتي.. ينام ويستيقظ ليقرأ من جديد.. هكذا تحرر الشاب من سجن الأفكار ومن سجن الأسوار إلى عزلة السطور التي قد تعوضه تصحر تربة عقله، ولكنها لا تغنيه عن تلاق إنسانى لا يمكن لبشر أن يعيش بدونه.

يحاول الكرة تلو الأخري والمجتمع لايزال جدارا مصمتا ضد السماح له بالنفاذ إلى مساحة أكثر اتساعا من بيت الأسرة.. حتى زملاء العمل يتهامسون فيما بينهم بسهام الحروف المدببة التي يعى مداركها دون أن يسمع تفاصيلها.

تمضى ليالى العمر كئيبة أضيق من جدران الزنزانة، والعائد يشعر أن تحرره لم يكتمل، بعد أن أصبح في مواجهة مع مجتمع لا يؤمن بالتوبة ولا يقبل العائدين إليه.. وسط هذا الصراع المرهق يردد الشاب: إن الله في عليائه يقبل التائبين أما الناس فلهم رأي آخر!!
الجريدة الرسمية