رئيس التحرير
عصام كامل

التنوير حق يراد به الباطل

في مثل هذه الأيام من كل عام تخرج جماعات وبعض الأفراد يقدمون مبررات ترشيحهم لجائزة نوبل ظنا منهم أن الانسلاخ عن ثقافة مجتمعهم، والتمسح في التجربة الغربية هي المؤهلات المطلوبة للفوز وأسهل طريق لذلك هو الادعاء بأنهم من التنويريين، وأنهم على خطى ابن رشد وابن سينا أو من جماعة المعتزلة بزعم أن هؤلاء هم الأباء المؤسسين للعلمانية العربية..

وذلك كذب وجهل لأن المعتزلة مثلا شاركوا في حكم الدولة الإسلامية على مدى ثلاثة عقود تقريبًا في خلافة المأمون والمعتصم والواثق، ولم نسمع أنهم طالبوا بفصل الدين عن الدولة.. المشكلة ليست في التنوير ولكن في جماعة التنوير والتمسح التنويريين القدماء الذين حرروا أوروبا مما كانوا يظنونه العائق الأول له.. 

أي الفكر الكنسي الأسطوري بسبب مبالغة رجال الدين الذي تجاوزوا كل الحدود، إذ تحولوا إلي طواغيت ومحترفين سياسيين تحت ستار الإكليروس والرهبنة وبيع صكوك الغفران، ثم وقوف الكنيسة ضد العلم وتشكيلها محاكم تفتيش واتهامها العلماء بالهرطقة، وقتها كانت العلمانية والتنوير ثورة مكنت الغرب من بناء الأنظمة الديمقراطية واقتصاديات السوق والتطور المذهل للعلوم والتكنولوجيا.

العلمانية التي استوردناها

إذن المشكلة ليست في التنوير ولكن التنويريين عندنا محامون فاشلون لبعض القضايا الموضوعية، بعضهم يحسن الكذب وتزييف الحقائق حيث يقتطع بعض عبارات كبار علماء الدين ويوظفها في غير مكانها، وهو متيقن من جهل غالبية العامة تجعلهم يأكلون السم في العسل، دون البحث والتأكد من المقولة وأين قيلت ولماذا قيلت والسياق الذي قيلت فيه.. 

بعضهم أيضًا له تاريخ من مشاغبة التراث الديني، والتخديم على السردية الإسرائيلية بشأن القدس، والتحرش بالرأي العام واستفزازه، وإعادة إنتاج كتابات المستشرقين القدماء التي تشكك في الوحي والأحاديث النبوية، ولبعضهم كتابات تتناول المقدسات بأقل قدر من الإحترام؛ بهدف ضمان احتفاء الإعلام والمؤسسات الغربية بها.. 

وبالتراكم تضرر كثيرًا مصطلح التنوير وتم إحالته إلى سلسلة المصطلحات، التي استقرت في الضمير والوعي على أنها مصطلحات سيئة السمعة، أمًا الجدل المتكرر فيعني العجز عن الإبداع خاصة إذا كان الطرفين علي باطل.

 والخطأ الأكبر الذي يقع فيه الإسلاميون هو الفصل التام بين النص والواقع الذي أنشأه، وهو نفس ما يقع فيه التيار العلماني من خلال محاولة استعارة النموذج العلماني دون الالتفات إلى شرطه وسياقه التاريخي.. بمعنى أنها تجارب وثقافات مختلفة من دولة لأخرى في تلك الدول التي تعتبر علمانية، بخاصة في علاقتها مع ظاهرة التدين. 

فعلمانية فرنسا التي تعاملت مع مظاهر التدين بشكل حاد، اختلفت عن التجربة الإنكليزية التي يعتبر الملك فيها رأسًا للكنيسة الإنجليكانية، كما اختلفت عن التجربة اليابانية التي يعتبر فيها الإمبراطور إلهًا بشكل أو بآخر والغريب أن البعض يحاول جرجرة مصر لنماذج لا تناسبها.

فمصر لا شرقية ولا غربية، فهي لا يحدها مذهب، ولا تحتويها طائفة، مصر علم على ذاتها، يستدل بها ولا يستدل عليها ولكنهم مصرون على أن ترتدي مصر ثياب غيرها، وهم لا يعلمون أنها لا تلبس إلا من عمل يديها. 

وهكذا فشلت العلمانية التي استوردناها، وهو فشل طال كل المقتاتين على الاستيراد الأيدلوجي نتيجة التوظيف الانتهازي لما ذهب إليه مفكروا عصر النهضة الأوربية، فلكل عصر تنويره الخاصة به، لهذا فشلت كل تجارب استنساخ تجربة أيّ مجتمعات أخرى ومحاولة فرضها على مجتمعات لها تحدياتها الناشئة في سياقها الاجتماعي والسياسي والتاريخي الخاص.

الجريدة الرسمية