رئيس التحرير
عصام كامل

طوفان الأقصى.. وائل الدحدوح “الصابر”.. رسائله اليومية من غزة كشفت المجازر.. حلم بدراسة الطب ومداواة المرضى.. وسنوات الاعتقال حولت رحلته إلى عالم الصحافة

وائل الدحدوح،فيتو
وائل الدحدوح،فيتو

يوم 7 أكتوبر 2023 ليس مجرد تاريخ طوى بنهاية العام، وتداعياته لم تنتهِ عند حد هجوم المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة فى العملية البطولية «طوفان الأقصى» وما تبعه من عدوان غاشم ينفذه الاحتلال الإسرائيلى حتى طباعة هذه السطور.

صحيح أن «طوفان الأقصى» حملت مكاسب عسكرية وسياسية وخلفت شهداء يصعب ذكر أعدادهم هنا لصعود المئات من أرواح الأبرياء كل دقيقة، لكنها طوفان هادر أسقط الأقنعة وفضح مكنون النفوس، لا حقوق للإنسان ولا دعم للديمقراطيات ولا حتى حصانة من قتل الأطفال فى سبيل تحقيق الأهداف السياسية.

Advertisements

سقط قناع الزيف عن أمريكا ورئيسها جو بايدن، الذى ساند القتلة فى الاحتلال الإسرائيلى بنيامين نتيناهو وعصابته الشريرة، الغرب المتحضر اتضحت عنصريته ويرى زعماء دوله أنه لا مكان للعرب (المسيحيين قبل المسلمين) على وجه الأرض، صادروا حقهم فى أوطانهم، وطل الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ورفاقه من قادة الغرب بسلوكيات وتصريحات إعلامية أقرب فى وصفها بـ«الجعجعة الممجوجة» يوما مع إسرائيل وآخر مع فلسطين، والهدف ترضية كفيلهم العالمى «أمريكا»، وغاب عن الجميع الوازع الإنسانى والأخلاقى.

المنظمات الدولية التى طنت آذان البشر منذ عقود كشفت وجهها القبيح، وتبين أن قواعدها ولوائحها صنعت لتنفذ على الضعفاء، لا مجال لفرض قرار على إسرائيل، لم تعد عصبة الأمم، بل الأصح وصفها بـ«لعبة الأمم».

الإعلام الغربى الذى اعتقد العرب فى خيم الصحارى أنه منبر الحقيقة، ناله من طوفان التعرية ما يكفى للانصراف عنه، أسقطت عنه ستار الثقة العمياء مراسلة «سي إن إن» كلاريسا وارد، التى استبدلت دور الكاميرا من نقل الحقيقة إلى اختبار قادتها فى تمثيل الفزع والهرب من عدو وهمى يذبح الأطفال فى المستوطنات ويغتصب النساء، تناست أنه ذهب للدفاع عن أرضه ومصيره وليس لديه وقت كافٍ يمنحه رفاهية ممارسة الإباحية منتظرا قصفه قبل قذفه.

قديما قالوا: «جزى الله الشـدائد كـل خير.. عرفت بها عدوى من صـديقى». وهو ما حدث فى طوفان الأخلاق الذى كشف حقيقة الوجوه الفاعلة بأزمة غزة، الصورة لم تكن سوداوية فى كل جوانبها، وأظهرت فى المقابل وجوه رجال شرفاء من المشرق والمغرب ساندوا أبطال الأزمة؛ السنوار ورفاقه المرابطين هناك.

ساندهم رجال فى مواقع مختلفة لم يتركوهم فريسة لمحتل غاشم وأعوانه، هناك من يمتلك السلاح، واستخدامه بدون تفكير لم ينشغل بالعواقب، ومنهم من استغل وظيفته السياسية أو الدبلوماسية لمساندة شعب أعزل يتلخص حلمه فى أربعة جدارن ومقبرة تستر جثمانه فى أرضه.

الخلاصة، سقطت الأقنعة وتكشفت الحقيقة، رأينا وجوها عليها غبرة، وشاهدنا وجوها ناضرة.

ولأن التاريخ الحديث لا يرحم العقول ويسحب من الذاكرة مخزون دقائق لتقاطر الأحداث حولنا.. تقدم «فيتو» فى هذا العدد توثيقا لمواقف الرجال «الشرفاء والقتلة» فى أزمة غزة، ربما يعثر عليه شاب عربى يجهل ما حدث ولا تحتفظ طفولته البريئة بذكريات مؤلمة نتابعها يوميا. مساهمة متواضعة من المشاركين فى صياغة سطور فى مساندة القضية.

 

فى أحد أيام الحرب على غزة، وبينما كان مراسل قناة الجزيرة وائل الدحدوح ينقل للعالم جرائم الاحتلال فى حق أهالى غزة، استقبل على الهواء خبر استهداف جيش الكيان الصهيونى لمنزل عائلته، كان وائل فى بث مباشر على شاشة الجزيرة وهو يسمع النبأ الصادم باستشهاد زوجته آمنة وابنه محمود البالغ من العمر 16 عاما، وابنته شام ذات الأعوام الستة، وحفيده آدم الطفل الرضيع ونجله حمزة.

فى لحظة مهيبة تحول الدحدوح من مراسل ينقل الخبر إلى الخبر نفسه، لكن المدهش أن الرجل أظهر ثباتا يحسد عليه، فى وقت فقد فيه كل شيء تقريبا.. فقد أهله ودمر بيته، رحل الأحبة وتحولت الحياة إلى جحيم، لكن وائل قدم نموذجا يحتذى به فى الثبات والصبر، وبينما كان يغالب دموعه، حرص على القول إنها دموع إنسانية لا دموع جبن وانهيار.

قبل تلك الواقعة البشعة لم نكن نعرف عن وائل سوى اسمه وتقاريره التى يقدمها ليل نهار على شاشة الجزيرة، والتى تنقل معاناة الفلسطينيين تحت نار الاحتلال، لكن تاريخ الدحدوح ومسيرته تحمل الكثير من المعاناة التى يعيشها كل فلسطينى.

الدحدوح المولود لأسرة متوسطة الحال، تعمل فى شئون الزراعة، كان والده يرغب فى حياة أفضل لأبنائه لذلك حرص على إكمال تعليمهم وحصولهم على أعلى الشهادات.

استغل وائل رغبة أبيه وانغمس فى دروسه فى مدارس حى الزيتون بمدينة غزة شمال القطاع، وأظهر تفوقا واضحا خلال المراحل الدراسية الابتدائية والإعدادية والثانوية، وحين أنهى المرحلة الثانوية كانت الأحلام تداعبه فى أن يصبح طبيبا يضمد جراح أهالى غزة ويخفف عنهم آلامهم، لكن كان للقدر اختيار آخر فى حياة ومسيرة الشاب الفلسطينى وقتها.

وبينما كان وائل يستعد للسفر إلى العراق بعد الحصول على منحة دراسية لدراسة الطب فى بلاد الرافدين اندلعت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وكان فى مقدمة صفوف الفلسطينيين فى المواجهات مع جيش الاحتلال، وبعد أيام من الكر والفر ألقى القبض عليه ضمن مئات الشباب الفلسطينى وقضى فى سجون إسرائيل سبع سنوات كاملة كانت كفيلة بضياع حلمه فى دراسة الطب، لكن وائل حول المحنة إلى منحة، وساعده على ذلك تحمل مرارة تجربة عائلته التى عانت من الاحتلال وسجن واستشهد الكثير منهم.

بعد خروجه من معتقلات الصهاينة، كان اسم وائل الدحدوح على قائمة الممنوعين من السفر، ولم يكن بمقدوره مغادرة فلسطين لا للدراسة ولا لأى شيء آخر، وهنا كان قراره بدراسة الصحافة والإعلام بالجامعة الإسلامية فى غزة، وفى عام 1998 أنهى وائل الدراسة الجامعية وحصل على البكالوريوس، وبعدها انخرط فى التحضير للماجستير بجامعة القدس فى الضفة الغربية وحصل عليه بتقدير امتياز.

بداية وائل الدحدوح فى الإعلام كانت فى عام 2004 وقتها عمل مراسلا لعدد من وسائل الإعلام الفلسطينية المحلية قبل أن ينضم إلى شاشة قناة الجزيرة مراسلا لها من فلسطين، وتدرج فى المناصب حتى أصبح مديرا لمكتب القناة القطرية فى غزة.

وطوال ما يقرب من 20 عاما شارك وائل فى تغطية كل الحروب والهجمات التى تعرض لها أبناء الشعب الفلسطينى، وخلال تلك الحروب فقد الكثير من أشقائه وأبناء عمومته، لكنه ظل دوما على العهد صوتا للحقيقة فى زمن الأكاذيب.

حاول جيش الاحتلال الصهيونى إسكات صوت الدحدوح للأبد، وتم استهدافه وزميله مصور الجزير سامر أبو دقة، استشهد سامر ونجا وائل ليكمل رسالته وينقل للعالم الممارسات الإجرامية لجيش الاحتلال فى حق أهالى غزة.

 

الجريدة الرسمية