رئيس التحرير
عصام كامل

الأزمة والوطن واللص الشريف!

الشرف في الحقيقة من المفاهيم المعقدة جدا لاختلاف معناه من بلد لأخر. وداخل البلد الواحد نفسه قد يختلف المعنى، ما بين شرف العرض وشرف اليد وشرف الذمة وشرف الكلمة وشرف المقصد والمعنى! وعادة ما يطلق الناس مصطلح الرجل غير الشريف على الحرامي، كما يربطون اتساع الذمة وضيقها بنزاهة اليد! 

وقد يطلقون صفة الشرف على كل إنسان قدم مصلحة العامة على مصالحه الشخصية. أو الذي لا يتاجر بمواقفه الإنسانية.. وكذلك على الشخص الذى لا يستغل علاقاته أو وظيفته أو سلطته لتحقيق ربحٍ غير مستحق! فمثلا أطلقوا على سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقب الفاروق لا لشيئ سوى أنه أنقذ المسلمين من مجاعات عام الرمادة.. والرمادة هي جوع شديد أصاب الناس بالمدينة وما حولها، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وجعلت الرجل حين يذبح الشاة يعافها من شدة قبحها!


ولقبوا  سيدنا عمر بن عبد العزيز بالخليفة العادل أو بخامس الخلفاء الراشدين. لأنه كفى بطون المسلمين وأشبع حاجاتهم حتى فاضت.. وطالب جنوده أن ينثروا ما فاض من الحبوب على قمم الجبال؛ ليأكله الطير؛ ولكي لا يُقال جاع طير في بلاد المسلمين!


إذا حتى العدل نفسه أصبح كالذمة والشرف جميعهم يرتبط معناه بالمادة.. وقد ربطه البعض بالنَسَب.. والأشراف هم الذين ينتسبون إلى بيت النبوة.. فكأن هناك فارقا كبيرا بين الأشراف والشرفاء رغم أن مفرد الكلمتين فى اللغة العربية واحد اسمه الشريف!


ومنذ أن كنت طفلا كانت تشدني كلمة الرجل الشريف وحين تتبعته وسألت عن طبيعة شرفه؛ أخبروني بأنه رجل  يعتاد المساجد ومستور الحال.. وأخبروني  بأن الشريف هو الشخص الذي حين عرضت عليه رشوة أبى، ونأى بنفسه عن الفساد! وحين شاهدت فيلم كلمة شرف تأكدت بأن الشرف يمكن اختزاله فى كلمة.. إذا عاهد بها شخصًا صارت ميثاقًا، حتى وإن كانت دون سندٍ مكتوب!

الشريف وغير الشريف

فلا أنسى أبدًا الجملة التى كان يكررها أهل القرى فى طفولتنا حينما يفقدون الثقة بأحد لقد رميت طوبته والطوبة هى قطعة من حجر صغير كان يقدمها صاحب العهد لشريكه في معاملات الاستدانة والبيع كبديل للعقد المكتوب.. فإذا خالف البائع أو المدين كلمته وأنكر البيعة أو الدين رمى الأخر طوبته؛ مؤكدًا بأن الرجل لا شرف له؛ فقد خان العهد أو حنث فى القسم.. فالرجل غير الشريف هنا هو الذى لا عهد له ولا قسم ولا كلمة!


والآن وقد كبرت ورأيت من أنماط البشر ما رأيت فما زالت تشدني سمة الرجل الشريف وعرفت أنه ليس من الشرف اختزال الشرف في المادة.. فالرجل ليس شريف لأنه عادل، بل هو عادل لأنه شريف! وأنه إذا كانت العدالة هي أم الفضائل ولا يمكن بحالٍ أن تسبقها فضيلة.. فإن العدالة نفسها لا يمكن أن تسبق الشرف.. لأن العدالة في طبيعتها نسبية والشرف استحالة أن يكون كذلك!


فالقاضي الشريف في العرف الاجتماعي هو ليس القاضي العادل، وإنما القاضي الذى قاوم كافة المؤثرات التي تؤثر في حكمه! وشرف الإنسان في تصوري ليس فقط في لسانه ولا في عرضه وإنما في نظافة السلة التى ينتقي منها مفاهيمه ومبادئه.


والشريف في أيامنا تلك وفي ظل الأزمات المتتالية التي تعاني منها بلادنا هو الذى يقف صلبًا في وجه الأزمة.. ويقاوم التشكيك والشائعات.. ويظل واثقًا في قدرة الدولة على النهوض من الكبوة.. وكان ترسًا لا يستهان به في الخروج من الأزمة.. هو الشخص الذى يقدم  وطنه على بيته ويقدم بيته على  كل شيء.. 

فالتاجر الشريف هو الذى لا يتاجر بأزمات الناس فيحتكر السلع وقت الشح ويحبسها عن الناس طمعًا في ربحٍ أكثر.. وهو الذى لا يصنع في وقت الأزمات أزمة جديدة حتى وإن كان لصًا.. فهناك أيضًا اللص الشريف.. الذى لا يسرق أبدًا محتاج ولا يسرق أبدًا وقت الأزمة!

 
وهناك المثقف الشريف الذى لا يبث معلومات مغلوطة يعلم أنها سوف تزيد الطينة بلة.. وهو الذى يعلم متى يتكلم وحين يتكلم ماذا يقول.. الشريف هو الذى يطلق الكلمة التى تحمى وتساند الوطن وتخفف عن الناس أوجاعها.. هو الذى يبث الأمل في نفوس العامة حتى لا يحبطون!


وهناك رجال الأعمال الشرفاء الذين لا يهربون باستثماراتهم خارج البلاد والذي لا يغلقون مصانعهم واكتفوا بأسعار الفائدة  العالية وشردوا عشرات العمال دون عمل  ومن ثم بلا دخل.. أو الذين خفضوا أجور العمال مستغلين حاجتهم للعمل في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة التى تمر بها البلاد.. ولا تنسى أن هناك رجال الأعمال غير الشرفاء الذين ينتظرون الأزمات حتى يربحوا، فإن لم تأت الأزمات افتعلوها.. أولئك الذين لم يرتقوا حتى لمراتب اللصوص!

 
وهناك السياسي الشريف الذى لا يستغل ضعف بلاده.. ويمارس مزيدًا من الضغوط للحصول على مزيد من المكاسب السياسية، حتى وإن دفعه شغفه السياسي لا يتحالف مع أعداء الوطن بالداخل أو بالخارج.. ولعل الفترة ما بين 2011 وحتى 2014 قد كشفت لنا كثيرًا من السياسيين غير الشرفاء!

ويكمن شرف الرجل أيضًا في قدرته على مقاومة المغريات والواسطات التي تضغط عليه ليتخلى عن مبادئه؛ فتسلبه الشرف الذي ينير به سمعته، التي هي كتاب تاريخه الذي كتبه بيده في الأرض. وحين مات أخذ معه نسخة إلى السماء.. فأسماءكم من نور.. تزداد إضاءتها بالشرف.. فلا تطفئوها بالحماقات!

الجريدة الرسمية