رئيس التحرير
عصام كامل

على طريقة سعيد الصحاف

وكنا أمام الشاشات ماكثين أبدا وعيوننا تأكل اللقطات القادمة من بغداد المهددة بكل صنوف الإرهاب العالمى الرسمى.. ذلك يوم التهديد الأبشع فى التاريخ، إنه الأربعاء التاسع عشر من مارس من العام ٢٠٠٣م. بحر الأخبار القادم من شمال الكرة الذى أعلن معظمه المشاركة فى وأد الحضارة العراقية يحادثنا بلغة واحدة وعواصم البشر الأحرار تغلى بأعداد غفيرة من المحتجين على المذبحة الأمريكية لوطن كان شعلة حضارية أضاءت الإنسانية بأنوارها يوما ما.
اليوم التالى كان خميسا، وبعده كانت الجمعة، حيث انطلقت مظاهرات قاهرة المعز، وبعض المدن تغلى فى إناء محكم من القبضة الأمنية التى شكلها الحاكم باسم مصر العربية.


وكانت عيوننا تتابع بأمل ذلك الرجل الذى انتزع كل ثقة الرجال فى إطلالاته.. إنه محمد سعيد الصحاف وزير إعلام العراق فى ذلك الوقت، والذى عدد لنا، ونحن الآملين فى ذلك، مواقع النصر على العدو. مضت الأيام وسعيد الصحاف يطل علينا فى اليوم مرات ومرات، يبث فينا أملا كنا نحن زارعوه فى الوهم حينما تصورنا خيالا أن الحق لا بد منتصر، وأن الباطل لا بد زائل.


سعيد الصحاف ببذته العسكرية تحول إلى نجم يتلألأ فى سماء الآملين بانتصار فى مواجهة صلف القوة الأمريكية الغاشمة والرجل صاحب عبارات بليغة ولغة تتدفق فى عذوبة وقوة وبأس، كان الرجل يحادث كل المدافعين بأرقام وكنا نصدقها.. أصبح بطلا رمزيا لكل المحتجين فى عواصم أوروبية وأمريكية جنوبية وعربية، وأضحى كما لو كان أيقونة الرأى الآخر فى سير العمليات.

مصطلحات الصحاف


على الأرض وفى الواقع الذى لم نكن نراه إلا بعيون أمريكية كانت وقائع الهزيمة والانكسار أمام أسلحة استخدمت للمرة الأولى فى تاريخ الحروب أمرا حاصلا لم نكن نصدق منه إلا اليسير. وعلى الطرف الآخر كان سعيد الصحاف يأخذنا بعيدا إلى انتصارات عراقية وسقوط مدو للأمريكيين على أسوار بغداد وكنا نصدق كل ما يقول، ونتناقله بيننا مبشرين لقومنا ومنذرين لكل معتد أثيم.


مع أيام الحرب الصعبة أصبح سعيد الصحاف هو العراق، وأصبح الرجل هو كل مؤسسات الأخبار العراقية فى مواجهة بحر جارف من الأكاذيب والحقائق يناسب فى أنهار الشاشات الغربية والعربية. يوما بعد يوم، أصبح سعيد الصحاف هو الأمل وهو الرمز.. يتنقل أمام الكاميرات فى شوارع بغداد نافيا أن يكون للأمريكيين وحلفاؤهم أي مساحة على أرض العراق الأبية.


ظل الرجل شجاعا إلى حد أن صدقناه وكذبنا كل ما كانت تبثه الآلة الإعلامية الأمريكية.. كنا نميل إلى رفض فكرة الهزيمة.. فكرة الهزيمة وسقوط العراق كانت مرعبة. كان سعيد الصحاف يعلم جيدا أنه فى مواجهة صعبة، وعليه أن يقوم بدور دعائى فى مواجهة وسائل إعلام قوية فاختار الظهور ببذته العسكرية وهو يمضى فى شوارع بغداد وكأن شيئا لم يحدث.


صك سعيد الصحاف مجموعة من المصطلحات العربية التى تحولت إلى درر تتناقلها الطبقات الشعبية، ولا ننسى مصطلح «علوج» الذى صدره للدنيا كلها، واصفا الأمريكان بذلك مفسرا المعنى بأنهم «الكفار»! لم تكن تشغلنا الصور المتدفقة لسقوط شحنات القنابل الأمريكية على الأحياء وتدميرها بشكل كامل، كنا نصدق على الفور ودون مناقشة كل ما قاله سعيد الصحاف عن أسلحة غير مشروعة تقتل البشر وتحرق الزرع وتدمر كل ما يقابلها، ومع ذلك كنا نصدق أن العراق سينتصر.

 


شغل سعيد الصحاف كل الدارسين لفنون الإعلام العسكرى بقدراته على الإقناع ونفاذه إلى القلوب وتحقيقه معدلات صدق أكبر من تصورات الجميع، وظل الرجل يكذب ويكذب ونحن نصدق كل ما يقول. ومع آخر مشاهد سقوط بغداد كان سعيد الصحاف لا يزال يتنقل بين الشوارع مبشرا بانتصار.. اختفى سعيد الصحاف فجأة، ولم نره بعدها، وكأنه كان طيفا من خيال.. انتظرناه كثيرا، غير أنه لم يعد.
اختفى سعيد الصحاف من الوجود، غير أنه نظريته لا تزال تحيا بيننا.. مات سعيد الصحاف من الواقع، وظل الواقع يفرز لدينا كل يوم صحافًا جديدًا.. ترى كم «صحاف» لدينا وبين ظهرانينا وما زلنا نصدقه؟!

الجريدة الرسمية